التغيّر الاجتماعي والهزيمة الإيديولوجية للنظام

2021.02.25 | 00:28 دمشق

79c775a1-7fac-455c-93f1-2b7ea8e7ab03.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تكررت في الآونة الأخيرة تصريحات من مستويات متعددة داخل أجهزة النظام، تتبنى مواقف متشددة ضد قيم ثقافية وسلوكيات اجتماعية، تعد من وجهة نظر النظام مخالفة للقيم المجتمعية والأعراف العامة، ووصلت تلك التصريحات إلى ذروتها مع الانتقادات التي وجهها رأس النظام للقيم الليبرالية الغربية، التي رأى فيها تهديدًا للأخلاق العامة.

أثارت مواقف النظام الجديدة الاستغراب لدى كل من يعرف الطابع البراغماتي له، ويعرف حجم الجهد الذي بذله النظام، في محاولة إظهار نفسه أمام العالم الغربي واحة للعلمانية، في محيط تغلب عليه التوجهات الإسلامية. فما الذي أدى إلى انقلاب النظام المفاجئ؟ وما هي الأسباب التي دعت النظام إلى التنصل من كل القيم والأفكار التي كان يدعو إليها في السنوات الماضية؟ وما الذي يريد النظام استثماره من وراء هذ التحول؟

لا يمكن مقاربة تحول النظام إلى "محاربة البدع"، والوقوف إلى جانب ما يراه سلوكا قويما، وعادات اجتماعية مقبولة، إن لم ينظر إلى السياق السياسي والاجتماعي للأسدية نفسها.

جاء صعود الأسدية إبان فترة، ساد فيها خطاب قومي عربي، كان أمينا للمعايير الليبرالية التي طرحتها حركة النهضة العربية. ولهذا لم تكن الأسدية قادرة على الاستئثار بالحكم من دون توظيف مفاهيم تتصادى مع الحساسيات السياسية والفكرية السائدة آنذاك، فوظفت قضايا الوحدة العربية، والقضية الفلسطينية، ومناهضة الاستعمار، ودعم حركات التحرر العربية، من أجل إعطاء طابع شرعي، تسوغ به حكمها الذي كان يعاني مشكلة الشرعية الاجتماعية، على اعتبار أنه حكم يرأسه شخص لا ينتمي إلى المذهب الأكبر في البلاد.

استنادا إلى هذا السياق، لم يكن تحييد التيار الديني في بداية حكم الأسدية أمرا صعبا في ظل خطاب عام، يرى أن الحياة الدينية مسألة خاصة بالفرد نفسه، وأن الحديث عن الطوائف واستحضار خطابات الماضي يضر كثيرا بالمشروع القومي. ولهذا همش حزب البعث التيار الديني ونظر إليه على أنه تيار رجعي، وأكملت الأسدية المهمة، فنحّت الشخصيات الدينية التي لا تتفق معها في طروحاتها، وأبقت على قشرة دينية تنتمي أساسا إلى البرجوازية السنية في مدينتي حلب ودمشق، والتي كان الخطاب الديني للنظام يتوجه إليها وحدها بصورة أساسية.

وفي ظل الأسدية نفسها، تحولت وزارة الأوقاف، على سبيل المثال، إلى وزارة هامشية، من منطلق علاقتها بالجانب الديني الذي رأت فيه الأسدية الخطر الأكبر الذي يهدد وجودها واستمرارها، بالرغم من أن "الآباء المؤسسين" للكيان السوري تعاملوا مع تلك الوزارة على أنها هيئة مسؤولة عن إدارة الممتلكات الدينية، ولذلك تولى الإشراف عليها في فترة معينة فارس الخوري.

ولكن، بعد نصف قرن من حكم الأسدية، جرى فيها التوكيد على الطابع العلماني للدولة، من خلال فرض إيديولوجيا معينة، ومع كل ما استخدمته هذه الإيديولوجيا من عنف وقمع، أخفقت هذه الإيديولوجيا في أن تترسخ في الضمير الجمعي، والسلوك الاجتماعي، على غرار التجربتين الأتاتوركية والبورقيبية. ومنبع الإخفاق أن التجربة الأسدية في سورية كانت تجربة مشوهة، حاولت تطبيق العلمانية على نحو انتقائي، فما استقر في الضمير الجمعي أن العلمانية تعني محاربة الهوية الاجتماعية، ومحاباة الأقليات، وهو ما أدى إلى رد فعل، تمثل في تحول الأكثرية الاجتماعية إلى صفوف اليمين، والعودة التدريجية إلى تبني قيم أكثر محافظة. وهذا أمر يلاحظه أي باحث يتتبع المسار الاجتماعي في عقود الحكم الأسدي.

استهدفت الحرب التي شنها النظام على المجتمع السوري، في العقد الماضي، الأكثرية المجتمعية في وجودها وهويتها، وهو ما تبعه رد فعل تمثل في التحول إلى قيم أكثر محافظة

في محاولتها الالتفاف على تصاعد القيم الاجتماعية المحافظة، حاولت الأسدية في مرحلتين احتواء هذا المد، جاءت المرة الأولى بعد نهاية المعسكر الاشتراكي، وانهياره، وغياب السند الإيديولوجي، وخصوصا أن التيار الإسلامي خرج من الحرب الباردة، وهو يقف في صفوف الجانب المنتصر، الأمر الذي دفع الأسدية بفعل طابعها البراغماتي إلى التراجع قليلًا، والقبول بمساحة معينة للتيار الديني في المجال العام، وهو ما لم يكن مسموحا به في ثمانينات القرن المنصرم، وخصوصا بعد مجزرة حماة التي أعقبتها حملة قمع وترهيب طالت كل من يحمل رمزا دينيا.

استهدفت الحرب التي شنها النظام على المجتمع السوري، في العقد الماضي، الأكثرية المجتمعية في وجودها وهويتها، وهو ما تبعه رد فعل تمثل في التحول إلى قيم أكثر محافظة، حتى من قبل فئات وشرائح اجتماعية يوصف سلوكها عادة بالليبرالي، وحتى من قبل فئات برجوازية مؤيدة للنظام. جاء هذا التغير عقب ارتكاس الأسدية إلى نواتها الطائفية الضيقة، وقيامها بشن حرب على الهوية المجتمعية، واستعانتها بالاحتلال الإيراني وميليشياته الطائفية، ثم الاحتلال الروسي، وهو ما أسفر عن قطيعة تامة مع المرجعية الثقافية والسياسية التي يتخفى وراءها النظام.  

وفي هذا السياق جاءت المرحلة الثانية التي نشهد جزءًا من فصولها الآن، فحين أدرك النظام أن البنية المجتمعية أنجزت تحولًا كاملًا، يستعصي استيعابه ضمن المفاهيم والمقولات السابقة القائمة، أراد اللحاق بهذا التغير. فالهاجس الأهم لدى النظام هو الالتفاف على هذا التغير الاجتماعي العميق، وربطه بأجهزته، وتوظيفه لصالحه، من خلال تغيير الإيديولوجيا، والآليات القانونية، وتثبيت النصوص الدينية في المدونات القانونية، والحديث عن هوية الأكثرية بوصفها هوية للدولة السورية. ولهذا سنرى على نحو متصاعد محاولات حثيثة من قبل النظام لتبني قيم اجتماعية أكثر محافظة، والدفاع عنها، وحتى فرضها على أجهزة الدولة، إن تطلب الأمر ذلك. لكن المشكلة التي يواجهها النظام أن محاولاته تأتي من خلال "المؤسسة الدينية" التابعة له، والتي خرجت هي أيضًا خاسرة في معركتها، لأن الموقف الديني أو "المعنى الديني" أصبح ينتج خارجها، حتى لدى شرائح واسعة من الوسط البرجوازي الذي كانت المؤسسة تتوجه إليه عادة بخطابها.

تشبه حالة النظام السوري، الآن، إلى حد كبير، الوضع الذي وجد فيه النظام العراقي السابق نفسه بعد عام 1991م، حين تبنى خطابا إسلاميا، وشرع في حملة إيمانية، هدفها إضفاء شرعية دينية على نظام، بات خاويًا إيديولوجيًا، وغير قادر على تقديم أي خدمات اجتماعية تغطي عورته المكشوفة. هكذا لا يبقى إلا الاستثمار في السماء، علّها تكون عزاء وسلوى للنفوس المتعبة.