التراث بين القراءة العنصرية والقراءة السلفية (1)

2020.05.12 | 00:01 دمشق

altrath.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما نسمع مثقفين يطالبون بالقطيعة عن التراث، فأسأل نفسي: وهل ثمة قطيعةٌ أكثر مما نحن فيه؟ وكثيراً ما نسمعُ من آخرين مطالبتهم بـ"تنقية التراث" أو "غربلته"، فيُخيّل إليّ أن التراثَ كيس من الحنطة يحتاج إلى فرزٍ لاستبعاد الشوائب منه وإبقاء الحبوب، وهل سنجد اثنين يتفقان على ما يجب تركه وما ينبغي أخذه من هذا التراث؟ وهنالك رأيٌ ثالث يدعو إلى إعادة قراءة التراث وإعادة تأويله، ونحن نفهم التأويل فيما يتعلّق بالنصوص الدينية، لكن كيف يمكن إعادة تأويل التراث؟

لا شك أن كلمة تراث مشتبكة دلالياً مع كلمة "موروث"، وكلتاهما تشتبكان مع كلمة "أثر"، وتفصيلُ ذلك يحتاج إلى مقال آخر. وقبل الدخول في القراءة العنصرية للتراث، أودُّ الإشارة إلى أن عبارة "الحضارة العربية الإسلامية" تشير إلى اللغة الرسمية السائدة في تلك الحضارة، وليس إلى الأصول العرقية لأبنائها، فالعرب بعضُهم وليس كلَّهم. كما أن صفة "إسلامية" تشير إلى الإسلام بوصفه دين الغالبية من أبناء تلك الحضارة، وهي لا تحمل الدلالات الحديثة لمصطلح "إسلامي" الذي يعني الإسلام السياسي أو الأصولية الإسلامية. فالأصحّ أنّ نسمّيها "الحضارة العربية المسلمة"، والأكثر صحةّ " الحضارة العربية" فقط، نسبةً إلى اللغة العربية.

في زمن العنصرية التقليدية، كان الباحثون الغربيُّون يقسّمون البشر إلى مجموعات عرقية، ويخصصون لكلٍّ منها مجموعةً من الصفات الملتصقة بها التصاقاً أبدياً، ثم يقومون بترتيب تلك الأعراق ترتيباً هرميّاً من الأكثر سُمواً إلى الأشدّ انحطاطاً. ولذلك فقد كانت قراءتهم للتراث العربي الإسلامي قراءةً عنصرية، تنطلق من النظر في الأصول العرقية لكل فرد، ثم تقيُّم تطوُّره أو تخلُّفه حسب انتمائه البيولوجي إلى قبيلة أو قومٍ معيّنين. ولذلك فقد شاع لديهم القولُ إن علماء "الحضارة العربية الإسلامية" في معظمهم من الفرس والعجم، وأن سبب إبداعهم ونبوغهم يرجع إلى أصولهم العرقيّة وجيناتهم الموروثة، بدلاً من المحيط الاجتماعي والحضاري الذي عاشوا فيه وتفاعلوا معه.

وفي الحقيقة إن هذه القراءة العنصرية للتراث هي غير علمية أولاً، لثُبوت أنّ الأعراق مجرّد خرافة. وهي غير تاريخية ثانياً، لأنها تستبعد الدور الكبير والجوهري للشروط التاريخية والاجتماعية في تكوين وعي الأفراد والجماعات. وهي قراءة انتقائية ثالثاً، تركّز على علماء وأدباء من أصول فارسيّة مثلاً، وتغضُّ النظر عن آخرين من أصول عربية. علماً أن العلاقة بين الطرفين علاقة تفاعليّة جدليّة، وهما ليسا طرفين حقيقةً، إذ ينتميان إلى محيط حضاري واحد.

وبعدما أثبت العلمُ خرافة الأعراق في منتصف القرن العشرين، ظهرت أشكال جديدة من العنصرية، وظهرت قراءات عنصرية جديدة للتراث العربي

وبعدما أثبت العلمُ خرافة الأعراق في منتصف القرن العشرين، ظهرت أشكال جديدة من العنصرية، وظهرت قراءات عنصرية جديدة للتراث العربي. فبدلاً من نفي صفة "العربية" عن تلك الحضارة عن طريق التركيز على الأصول العرقية لعلمائها وأدبائها، والزعم أن جيناتهم الأجنبية هي علّة النبوغ؛ صارت القراءة العنصرية الجديدة تنفي صفة "الإسلام" عن تلك الحضارة، وترجع النقاط المضيئة فيها إلى أشخاصٍ تصنّفهم كغير مسلمين، بالتوازي مع نسبة النقاط المظلمة إلى أشخاص تصفهم بالمسلمين إسلاماً حقّاً، حسب رأي أصحاب هذه القراءة. ينطلق أصحابُ المنطق العنصري من مُسلّمة أن الإسلام هو نقيض العلم والإبداع والحضارة والحداثة، فلذلك لا يستوعب عقلهم أن يكون العالم أو الفيلسوف أو الشاعر مسلماً في الوقت ذاته، فلا بدَّ بالتالي من نزع صفة الإسلام عنه. إنه مبدأ "الثالث المرفوع" الذي أكلَ الدهرُ عليه وشرب!

تعتمد القراءة العنصرية الجديدة في نفيها لصفة الإسلام عن العلماء والفلاسفة والأدباء؛ على حقيقة صدامهم مع رجال الدين المسلمين، وتكفيرهم لهم، وأحياناً سجنهم وقتلهم. وربما غاب عن هؤلاء أن كثيراً من حوادث التكفير التي حفلَ بها التاريخ العربي، كانت على أساس سياسي ولتحقيق غاية سياسية، وليست من منطلق فقهي أو لتحقيق غاية دينية. نأخذ كمثالٍ على ذلك محنة الحنابلة في زمن المأمون، ومحنة المعتزلة في زمن المتوكّل. كما يغيب عن ذهنهم أن تكفير شخصٍ ما لا يعني أنه كافرٌ أو غيرُ مؤمن في الحقيقة، فقد يكون مؤمناً إيماناً خالصاً لكنه يُكفَّر من قبل طرف آخر لأسبابٍ سياسية أو لاختلافات فقهية أو فلسفية. فحتى يومنا هذا هنالك متشدّدون يكفّرون طوائف إسلامية كاملة، وهنالك مَن يُكفِّر مَن يقول رأياً أو يشاهد التلفاز أو يستمع إلى الموسيقا، لكن هذا لا يعني أن جميع أولئك الناس هم كفّار أو غير مؤمنين حقيقةً.

عندما تنطلق القراءة العنصرية الجوهرانية من فرضية أن الإيمان والعلم لا يمكن أن يجتمعا في شخص واحد، فإنها تصل إلى نتائج متطرّفة وغريبة جداً

عندما تنطلق القراءة العنصرية الجوهرانية من فرضية أن الإيمان والعلم لا يمكن أن يجتمعا في شخص واحد، فإنها تصل إلى نتائج متطرّفة وغريبة جداً، كأن يُقال بأنّ ابن رشد لم يكن مسلماً، وهو قاضي قضاة المالكية في الأندلس. وأنْ يُقال عن الغزالي بأنه غير مسلم، وهو من أهم الشخصيات في تاريخ الإسلام. وأنْ يُقال عن شعراء مثل المتنبي والمعرّي بأنهما لم يكونا مسلمين، بسبب وجود آراء في شعرهم لا يوافق عليها التيار السلفي المتشدد. وكذلك أنْ تنفي عن الكندي والفارابي وابن سينا كونهم مسلمين، لأن الغزالي رفضَ مقولاتهم واعتبرَ الأخذَ بها ضلالاً، فهذا -في الحقيقة- اختلافٌ في فهم المعتقد الإسلامي ذاته، وليس خلافاً بين مسلمين وغير مسلمين.

تتميّز القراءة العنصرية -مثل كل قراءة غير علمية وغير تاريخية- بالانتقائية، وبعزل الظواهر عن شروطها. أنتَ لا يمكنك أن تأخذ تيّار أبي نواس وتقول إن العصر العباسي كلُّه خمرٌ وجَوَارٍ وغلمان، ولا يمكنك أن تأخذ تيار أبي العتاهية وتقول إن العصر العباسي كلُّه زهدٌ وتقشّفٌ وعبادة، بل إن الموضوعية هي في أن تأخذ التيارين معاً، فكلاهما يمثّل عصره، ولم يكن للتيار الآخر أن يوجد لولا وجود الأوّل. وهكذا فإن جميع من عاشوا في كنف "الحضارة العربية الإسلامية" هم ينتمون إليها، بغض النظر عن أصولهم العرقية أو قناعاتهم الدينية، فهم في كل الأحوال نتاجُ البيئة التي عاشُوا فيها وتشرَّبوا منها وتفاعلوا معها. وحتى الملحد منهم ينتمي إلى "الحضارة العربية الإسلامية"، لأنه عندما ألحدَ فقد ألحدَ بالدين الإسلامي، أي أنّ إلحاده جاء نتيجةً لتفاعله مع هذا الدين ومعَ ثقافة العصر، وهي الثقافة العربية الإسلامية حينذاك.

وهكذا نلاحظ كيف تطوّرت العنصرية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، فبدلاً من إنكار وجود "الحضارة العربية الإسلامية" ودورها، بحجة أن كثيراً من علمائها فلاسفتها كانوا من أصول فارسيةٍ وأعجمية؛ تم الذهاب إلى مرحلة إنكار تلك الحضارة وأثرها، بحجة أن كثيراً من علمائها وفلاسفتها كانوا غير مسلمين، حسب مفهوم القراءة العنصرية للإسلام.

كلمات مفتاحية