"التائهون" أولاد آدم

2022.07.07 | 07:03 دمشق

كتاب
+A
حجم الخط
-A

كنتُ اتكأت في مادتي السابقة على رواية الكاتب اللبناني أمين معلوف "التائهون"، التي تتحدث عن مسارات حياة مجموعة أصدقاء، قبل وخلال وبعد الحرب الأهلية اللبنانية. فعلتُ ذلك لأتحدث عنّا كسوريين، باعتبارنا تائهين أيضاً، بعد ما جرى لنا خلال العقد الأخير. كنتُ كلما كتبت بضع كلمات، أشعر أني أصادر "معلوف" لصالحي، من دون أن أعطيه حقّهُ فيما أراد قوله أصلاً في روايته. اليوم سأحاول تصحيح تلك الخيانة، ليس لأتحدث عن الرواية أكثر، لكن لأحاول أن أكون أميناً لها. تعليقٌ جاء من صديق "ما زال يعيش في دمشق" على المادة الماضية كتب فيه "ارجعوا بكامل أناقتكم. سنتفاهم، سنتفاهم ولو اضطررنا لصنع قاموس مفردات جديد". تعليقٌ كاد أن يودي بنواياي تلك، ويعيدني للحالة السورية، لكنني قاومت رغبتي العاطفية، لأظلَّ على وعدي، بأن أتناول الرواية من الزاوية التي أرادها معلوف، وقد لا أفلح.

فيما بدا رداً على اقتباس عن الرئيس الأميركي الأسبق جون كندي، يقول معلوف على لسان أحد أبطاله، وكأنه يقدم تعريفاً للوطن حيث لا يجب أن تخضع فيه كفردٍ، للقمع والتمييز، أو لأيٍّ من أشكال الحرمان بغير وجه حق "من واجب وطنك وقياداته أن يكفلوا لك ذلك، وإلا فأنت لا تدين لهم بشيء. لا بالتعلق بالأرض، ولا بتحية العلم. فالوطن الذي بوسعك أن تعيش فيه مرفوع الرأس، تعطيه كل ما لديك، وتضحي من أجله بالنفيس والغالي، حتى بحياتك، أما الوطن الذي تضطر فيه للعيش مطأطئ الرأس، فلا تعطيه شيئاً". إذا هذا هو رد معلوف (الشخصي على ما أخمّن) على العبارة الشهيرة للرئيس كيندي: "لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك".

إضافة إلى غوصها في أزمة الهوية، فقد بدا لي أن رواية "التائهون" قد بُنيت حول هذا التعارض في مفهوم الوطن. وخلال كامل الرواية سنجد تنويعات تتمحور على ذات الشرخ الذي خلّفته الحرب اللبنانية، بين من بقي ومن غادر الوطن. وعليه، لم يكن اختيار "أمين معلوف" اسمَ بطل روايته "آدم" اعتباطياً، إنما أراد تذكير الجميع بأصلهم الواحد، الذي سبق كل الانقسامات "إنه أبونا جميعاً" قبل أن يكون لدينا انتماءات نتقاتل بزعم الدفاع عنها. وحتى قبل تشكُّل الهويات الوطنية والأديان.

التائهون، ليسوا مجموعة أصدقاء كما يوحي ظاهر الحكاية، بل هم كلُّ أبناء هذا الشرق الموغل في قدمه، من دون أن يؤهله هذا القدم، لهوية واحدة تجمع أبناءه، رغم محاولات كثيرة. لعل عمل معلوف على "مجموعة الأصدقاء" هي إحدى تلك المحاولات. من خلال قراءة هذه المحاولة، نتابعُ معه، حكاية تسعة أصدقاء، خَلَعوا في شبابهم الأول، أثواب الطوائف والمذاهب، مؤمنين بأن: "بوسع بعض الأصدقاء المخلصين لأهداف مشتركة، والملتزمين التزاماً وثيقاً، أن يغيروا وجه العالم".

بعثرت الحرب الأصدقاء فرحل من رحل وبقي من بقي، وهنا تبدو الأهمية الحاسمة للجغرافيا، باعتبارها واحدة من أهم عوامل التأثير التي غيّرت في شخصيات الرواية، لتفترق كل منها وتتخذ لنفسها، حتى لو لم تشأ، إحداثياتها الخاصة. قد تكون مرافعة "تانيا"، وهي واحدة من المجموعة مع زوجها مراد الذي تبدأ الرواية مع خبر وفاته، تلمح إلى هذا التباين بين مجموعة الأصدقاء التائهين "ماذا كان سيحل بالبلد، لو رحل الجميع مثلك؟ كنا حافظنا جميعا على نظافة كفنا، في باريس أو مونتريال، أو استوكهولم. أولئك الذين بقوا لطخوا أيديهم، لكي يحافظوا على وطن من أجلكم، فيتسنى لكم أن تعودوا إليه يوماً".

التائهون، ليسوا مجموعة أصدقاء كما يوحي ظاهر الحكاية، بل هم كلُّ أبناء هذا الشرق الموغل في قدمه، من دون أن يؤهله هذا القدم، لهوية واحدة تجمع أبناءه، رغم محاولات كثيرة

بعيداً عن هذا الشرق، كان حديث تانيا سيعتبرُ تبريرا لأفعال جرمية، لكن المُطّلع على إرث وطن كوطنها، يستطيع اعتبار كلامها وصفاً أميناً للواقع، إنها ابنة الجغرافيا التي يرث أبناؤها الكثير من الدماء والعداوات البينية، والهويات المتناحرة، فعند أي مفترق، قد تقع في فخّ الاختيار بين أن تكون قاتلاً أو مقتولاً، أو هارباً في أحسن الأحوال. رغم كل هذا، نرى تانيا تحاول التمسك بحلم لم شمل الوطن مرة أخرى، وتبتكر فكرة جمع شمل الأصدقاء بعد أكثر من ربع قرن. ليبدو هذا وكأنه إيحاءٌ من معلوف، لرهانه على بقاء بعض الجذور سليمة من العطب.

طال حداد "سميراميس" على مقتل "بلال"، لكنها خرجت من حدادها لتدير وتقيم في "الفندق" الذي بدا لها وطناً لكن بلا مقيمين دائمين، ولا التزام قد تعقبُه فجيعة. مات بلال مع قذائف الحرب الأولى، وإن كان قد حمل البندقية، فإنه نجا ليبقى على صورته النقيّة بسبب موته، وليس لأي سبب آخر. فمن يضمن استمراره نقياً لو لم يكن أول الضحايا. مات من دون أن يطلق رصاصة من البندقية التي اختار حملها، كيساري يحلم أن يكتب عن الحرب بعد أن ينغمس بها "كان بلال كائنا مضطرباً، لكنه نقي، أبعد ما يكون عن الخسة". ومع ذلك فإن قاتل بلال هو من حماهُ من أن يكون قاتلاً "لم يستخدم سلاحه أبداً، ظلت يداه نظيفتين، ولم يقتل أحداً". لكن كم يبقى من النقاء لدى أي شخص، بعد أول خطوة في طريق الحرب؟

يستحق رامز ورمزي "التوءم"، بحسب تعريف أصدقائهما، وهما مسيحي ومسلم، لقب أنجح الفاشلين في مجموعة الأصدقاء. على الصعيد الوطني، حاولا البقاء، لكن ليس لأبعد من قذيفة واحدة، هدمت مكتبهما الهندسي عند افتتاحه. في النهاية يعتزل رمزي الحياة في دير جبلي. من دون أن نتأكد إن كانت تحولاته تتكئ على روح ثورية. فاعتزال الدنيا زهداً، وبعداً عن فاسديها، قرار أرفع مقاماً من مغادرتها انتحاراً كما حاول أن يفعل ألبير، أو انسحاباً كما فعل من هجروا البلد. مع ذلك سيبدو هذا الزهد شكلاً من أشكال الفرار. كان رامز أقوى في المواجهة والتمسك بالحياة رغم إصابته بعقدة الدونية الحضارية "إنني أنتمي، بحكم الولادة، إلى حضارة مهزومة، وإذا لم أشأ التنكر لأصلي، فأنا محكوم بالعيش مع هذه الوصمة على جبيني".

هل كان "نعيم" بفراره مع عائلته، يختلف عن أصدقائه المغادرين؟ على الأرجح نعم. رغم أن هناك عجزا في إطلاق تقييم دقيق لخطوته بالمغادرة حتى قبل اندلاع الحرب. نعيم حالة متفردة، فهو اليهودي اللبناني، الذي لم يؤمن بفكرة دولة إسرائيل، بل اعتبرها كارثة، لا تقل عن كارثة الحرب العالمية الأولى. ولكن هذا لن يشفع له، فقد وجد نفسه ضمن مخاطر قد تعرضه للأذى والظلم، بسبب التعميم والعماء الذي اجتاح الجميع، فغدا نعيم عدواً في وطن أهله، بسبب انتمائه لدينٍ لم يختره، بل ورثه كما ورثوا أديانهم جميعاً.

لم يكن نضال خارج استهداف معلوف تحميل شخصياته رمزية ما، ضمن واقع هذا الشرق. إنه شقيق بلال لكن بنسخة إسلامية. الرجل لا يستطيع أن يرى عدواً آخر له في الحياة غير الغرب، ولا مُستهدَفاً آخر غير الإسلام "الغرب هو سبب كل بلاء وعلة، والحل هو العودة للأصل الإسلامي". سيشير معلوف إلى أن نضال ضحية في مكان ما، فقد مرت الحرب من هنا، ولم تترك بيتا ولا صداقة ولا دينا ولا قيمة إلا عملت على تخريبها "لا تكتفي الحروب بالكشف عن أسوأ غرائزنا، بل تصنعها وتقولبها، كم من الأشخاص تحولوا إلى مهربين، وسارقين، وخاطفين، وقتلة، وجزارين، وكان بوسعهم ان يكونوا أفضل الأشخاص، على وجه البسيطة، لو لم يتقوض مجتمعهم". وأحياناً في حمأتها، تنتشل الحرب شخصاً مثل ألبير من حالة انتحار مؤكدة، ليغدو باحثاً في أحد مراكز الدراسات الأميركية.

في روايته يمر معلوف على أغلب مآزق المنطقة، حتى لو لم يعالج الكثير منها. فتراه يقدم مقولات عمومية بطابع إنساني "كل إنسان يحتجز إنساناً آخر ويعذبه ويهينه، يستحق أن يوصف بالخسيس، سواء أكان قاطع طريق، أم مناضلاً، أم ممثلاً للقانون، أم رئيس بلد". رئيس بلد خسيس؟ أعجبني التوصيف كسوريّ، رغم أن معلوف يشير إلى الأنظمة المستبدة دون الدخول إلى كامل مفرداتها. وكذا حين يعالج أزمة التطرف في حالة "نضال" بطرح الأسئلة الصعبة "الناشطون المتطرفون مثله سيصبحون حتماً طغاة في يوم من الأيام. ولكنهم اليوم مضطهدون في أغلب بلداننا.. أترغب بالدفاع عن أحد المضطهدين، فيما تعلم علم اليقين بأنه سيتصرف غداً كطاغية؟ إنها معضلة لا أفلح في حلها".

هل تأكدتم الآن أن هذه المادة ليست عرضاً للرواية؟ أرجو ذلك. إنها محاولة متعمدة لاقتطاف ما يؤكد الهوية المزعزعة لسكان هذا الشرق، واختلالات البنية الاجتماعية في أوطان لم تأخذ صيغتها النهائية بعد. ولذا ترون أن ما أتيتُ به لن يشبع نهم من أراد متابعة التطور الدرامي لحبكة الرواية، ولن أفعل.

رغم لبنانيّتها، فإن شخصيات معلوف تصلح لتكون من أي بلد في المنطقة. لم يكن أحد منهم بطلاً ولا خائناً، وآدم الذي جاء بالجميع للقاءٍ بعد ربع قرن، دخل في حالة من الموت، قبل إنجاز مهمته، تاركاً الجميع خلفه. كأن دور آدم، أي آدم، أن ينصت للشيطان، ثم يستفزه، ليغادر بعدها، تاركاً أشخاصاً وملفات مفتوحة "إنه محكوم مع وقف التنفيذ، مثل بلده، مثل هذا الكوكب، مثلنا جميعاً".

كلمات مفتاحية