البُعد الاقتصادي في الدستور.. "آنَ وقتُ الطحين"!

2020.10.19 | 00:17 دمشق

edjvabrv2nvo7rthpsq2uqw0ovemevyudys4cmjd.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يغيب تفصيل البعد الاقتصادي عن الكثير من الدساتير في العالم، فيُذكر باقتضاب كما لو أنه يبدو هروباً من هوية الدولة الاقتصادية، ومبرره لدى بعض فقهاء الدستور أنه نوعٌ من ترك هامش حرية لواضع السياسات التفصيلية في اختيار السياسة التي يجدها مناسبة، ويُترك الأمر مرناً طبقاً لمقتضى الحال، ويضمن بذلك هامش حرية لصانع السياسات الاقتصادية للتأقلم مع أية ظروف محيطة، إضافة إلى أن هنالك من فقهاء الدستور من يميل إلى اختصار النص الدستوري إلى أقل ما يمكن، فيؤكد على ضرورة الاهتمام بكتابة دستور "مكثّف" فيه فقط الحد الأدنى المتفق عليه بين المواطنين.

بيد أن هنالك دساتير كثيرة تحمل تفصيلات عديدة فليست كل دساتير العالم مثل الدستور الأميركي صغيرة الحجم حيث بلغ عدد صفحاته 19 صفحة، ولم يذكر فيه كلمة اقتصاد ولا مرة، ولكن ذُكر المال 6 مرات، والضرائب 10 مرات، وكذلك بلغ عدد صفحات الدستور الإيطالي 48 صفحة، ذُكر فيها الاقتصاد 16 مرة، والتنمية 3 مرات، والضريبة 11 مرة، والعمال 3 مرات، أما الدستور التركي فبلغ عدد صفحاته 83 صفحة، وقد ذكر الاقتصاد 44 مرة والتنمية 14 مرة والضريبة 9 مرات، أما الدستور الياباني البالغ عدد صفحاته 22 صفحة فذكر الاقتصاد مرة واحدة، والضريبة 4 مرات، والعمل 7 مرات والتجارة مرتين.

الجدير بالذكر أن أطول دستور في العالم هو الدستور البريطاني الذي بلغ عدد صفحاته 709 صفحات، ويستطيع القارئ تتبع سياستها الاقتصادية عبر ذكر مُفردة الاقتصاد 36 مرة، والتنمية 54 مرة، والعمل 32 مرة، بينما بلغ تكرار مفردة "الضرائب" رقماً ساحقاً، فوصلت إلى 125 مرة، ومفردة المال 99 مرة، ومفردة الزراعة 29 مرة.

كذلك يأتي الدستور الماليزي في المرتبة الثانية حجماً بعد الدستور البريطاني، وتبلغ عدد صفحاته 450 صفحة وذكر الاقتصاد فيه 4 مرات، والتنمية 25 مرة، والتجارة مرتين، والضريبة 18 مرة، والسوق 14 مرة، والعمل 36 مرة، ويأتي في المرتبة الثالثة دستور البرازيل، وتبلغ عدد صفحاته 425 صفحة، ذكر فيها الاقتصاد 87 مرة، والتنمية 95 مرة، والعمل 127 مرة، وأما الضرائب فتعد البرازيل أكثر ذكراً للضرائب في دساتير العالم حيث ذُكرت 359 مرة، والميزانية 158 مرة، والسوق 18 مرة والتجارة 17 مرة والزراعة 15 مرة، أما الدستور الألماني الذي بلغ 140 صفحة – لم يكن مختصراً – فقد ذُكرت مفردة اقتصاد 24 مرة، والتنمية 11 مرة، والضريبة 90 مرة، والعمل 3 مرات.

تحدد بعض الدول توجهها الاقتصادي بشكل جليّ في دستورها بوضوح لا يستطيع معه أي صانع قرار أن يخرج عنه، مثل الصين التي تعتبر حسب المادة 15 أن سياستها الاقتصادية مبنية على تنفيذ سياسة "اقتصاد السوق الاشتراكي"، ورغم أن الحزب الشيوعي ما زال يحكم الصين فإن الإبداع الصيني نَحَتَ صيغة جديدة لاقتصاد السوق الذي يَجمع من حيث التوجه الاقتصادي بين الاشتراكية واقتصاد السوق، مع الاحتفاظ بحكم الشيوعيين سياسياً وإدارياً في توليفة مذهلة غير مسبوقة.

إن الدستور الفيتنامي يشابه الاقتصاد الصيني في تبنّيه لسياسة "اقتصاد سوق اشتراكي" والذي كان وراء نهضة فيتنام الاقتصادية، ويحدد دستورها ملامح متشابهة مع الصين حيث تعتبر الجمهورية الفيتنامية أن اقتصادها اقتصاد مستقل يعتمد على الذات ويشجع توفر الظروف المواتية لرجال الأعمال وشركات للاستثمار والإنتاج والقيام بالأعمال التجارية لأنها تؤمن بدور تلك المؤسسات في المساهمة في التنمية المستقرة وتضمن سلامة الممتلكات القانونية للأفراد ولشركات الاستثمار وأنها لا تخضع للتأميم، واحترام قواعد السوق وممارسة التفويض واللامركزية وأن الاقتصاد الفيتنامي هو اقتصاد سوق اشتراكي، كذلك حددت روسيا - وريثة الاتحاد السوفييتي ملهمة المدّ الشيوعي – في المادة الثامنة توجهها الاقتصادي بالحرية الاقتصادية والملكية الخاصة والمنافسة الاقتصادية على نمط سياسة السوق الحر.

كذلك حدد الدستور السويسري في المادة 94-96 سياسته الاقتصادية بتشجيع الحرية الاقتصادية والقطاع الخاص ومنع أي إجراءات تمنع حرية السوق والمنافسة والدستور البولندي واضح في تبني "اقتصاد السوق الاجتماعي" على النمط الألماني حيث ذكر بشكل واضح في المادة عشرين.

انصبّ اهتمام معظم المقترحات المطروحة للدستور السوري القادم بعد الثورة على المسائل السياسية، والحريات، وحقوق الإنسان، والفصل بين السلطات، وآلية صناعة القرار التشريعي والسياسي، وتداول السلطة، و"الجندرة"، ولم يكن هنالك أي جهد حقيقي في التعريف بالأبعاد الاقتصادية للدستور السوري القادم، وهذا يجعل الرؤية المستقبلية للاقتصاد السوري ضبابية وغير واضحة المعالم، مما يثير مخاوف الشعب السوري الذي عانى من عقدة التوجه الاقتصادي الاشتراكي لعقود، حيث كانت الدساتير "البعثية" السورية سابقاً وخاصة في المادة الثامنة سيئة الذكر تشير إلى أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع"! فهي تشير بوضوح إلى أن طبيعة الاقتصاد السوري "اشتراكي" أو عملياً "اشتراكوياً"، حيث ذكرت المادة الأولى من الدستور السوري أن "الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها"، ولكن المادة 13 كانت أوضح حيث أشارت إلى أن: "الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط يهدف إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال"، والمادة 49 تُعنى بكل وضوح بـ" بناء المجتمع العربي الاشتراكي وحماية نظامه، تخطيط وقيادة الاقتصاد الاشتراكي".

الاقتصاد السوري تاريخياً مرّ بمحنة التأميم الذي دمّر الاقتصاد السوري وكبح جماح نموه، ونفّر المستثمرين والصناعيين ورجال الأعمال السوريين قبل غيرهم، ذلك التأميم -سيئ الصيت- الذي فرضته الوحدة السورية ـ المصرية عام 1958، ثم التأميم الذي فرضه حزب البعث في 8 آذار عام 1963، حيث تم تأميم عدد من الشركات والمصارف والمؤسسات الصناعية الكبيرة بذريعة التوجهات الاشتراكوية الرعناء، وأممت الحكومة مئات المؤسسة الصناعية - خمسة مصانع للإسمنت ومصنعا للزجاج، ومعمل كبريت، ومصنعين للسكر، ومعملا للمعلبات الغذائية، ومعملا للبيرة، وغيرها، بلغ رأسمالها في حينها قرابة 200 مليون ليرة سورية- بالإضافة إلى 21 محطة كهربائية وجميع محالج القطن في البلاد وعددها 57 محلجاً.

بناء على تلك التوجهات، ومن أجل بناء "اقتصاد اشتراكي" خلال نصف قرن من عمر سوريا كما نصّ الدستور السوري بقيادة بعثية سلطوية استبدادية سِمتها الإخفاق الاقتصادي بعد السياسي والإنساني، جرّد الإصلاح الزراعي

آن الأوان لتلتحق سوريا بركب الاقتصاد العالمي، وتكون واحدة من الاقتصاديات الناشئة واستثمار ما حباها الله من موارد مادية وبشرية لم تتوفر لكثير من الدول التي نهضت وباتت علامة فارقة اقتصادية في العالم

مُلّاك الأراضي من ممتلكاتهم، وقام بتأميم الخدمات المصرفية التجارية والتأمين بالكامل، وفي عام 1965 أُمِّمت معظم الشركات الكبيرة كليًا أو جزئيًا، وبحلول عام 1966 توسع الجسد الحكومي ودخل في كل مفاصل النشاط الاقتصادي السوري فقام القطاع العام بتنمية الموارد الطبيعية والطاقة الكهربائية والمياه، والجزء الأكبر من المنشآت الصناعية والبنوك والتأمين والنقل، ومعظم التجارة الدولية وتجارة الجملة المحلية، والاستثمارات، وتدفق الائتمان، والتسعير للعديد من السلع والخدمات.

إن التوجه الليبرالي-الحر بدوافع وطنية مخلصة مع مراعاة الطبقة الأقل حظاً في المجتمع، واتباع سياسة أبوية حكومية تخص التعليم والصحة وترعى العمال من خلال تأهيلهم وخلق فرص عمل دائمة، وتؤمن إعانات البطالة لهم، يجب أن يكون منصوصاً عليه بصراحة دون مواربة أو تحذلق بحيث لا تحتمل بنود الدستور القادم أكثر من معنى، فيكفي السوريين ما أضاعوه خلال عمر دولتهم الفتية منذ الاستقلال، وآن الأوان لتلتحق سوريا بركب الاقتصاد العالمي، وتكون واحدة من الاقتصاديات الناشئة واستثمار ما حباها الله من موارد مادية وبشرية لم تتوفر لكثير من الدول التي نهضت وباتت علامة فارقة اقتصادية في العالم.

 من هنا تأتي ضرورة طرح "الدستور الاقتصادي السوري" كي يتم رسم ملامح واضحة للاقتصاد الوطني في المستقبل، وتضعه بين يدي فقهاء الدستور في أثناء صياغتهم لأي دستور سوري في قابل الأيام.

باتت حقيقة لا لبس فيها أنه في تاريخ سوريا المعاصر لم يكن "السياسي" الذي تسّلم دفة الحكم بالضرورة مؤتمَناً على اقتصاد سوريا، بل كانت بوصلته الاقتصادية – بعقلية عسكرتارية مستبدة- خليطاً من كثير من التوجهات العشوائية دون النظر لمآلات القرارات الاقتصادية التي تشكّل كيان الدولة الرئيسي وتُحرك كل مفاصل المجتمع، وتلعب دوراً حيوياً في تموضع الدولة تنموياً واقتصادياً ضمن دول العالم.

إن منزلة الدول لا تنفك عن حجمها ودورها الاقتصادي في العالم، ومساهمتها في وضع بصمتها الخاصة وطرح سلعها وخدماتها المنافسة المتميزة في السوق العالمية، مما ينعكس في صورة مؤشرات اقتصادية وتنموية واجتماعية وتعليمية وليس شعارات فارغة في الصحف المحلية غير المقروءة، وهذا التوجه الوطني يجب أن يكون واضحاً في الدستور السوري القادم كي ينهض الاقتصاد السوري للمرة الأولى في تاريخه الحديث ويعوض تضحيات أجياله التي تم سحقها بشعارات ترضي إيديولوجيات ديماغوجية وتطلعات ثراء منبته فساد السلطة على حساب الشعب الذي صمّت أذني أجياله شعارات الجعجعة فقد آن وقت الطحين بعد نصف قرن من ضياع الهوية الاقتصادية التي تضع سوريا على الخريطة الاقتصادية العالمية.