البوطي وجيشُ الأسد.. توصيفاتٌ وأمنياتٌ ودعواتٌ

2021.08.22 | 06:44 دمشق

mhmd-syd-albwty.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع تحوّل الثّورة السّوريّة إلى العسكرة، وبدء العمليّات العسكريّة في مختلف أنحاء سوريا شهدنا تحوّلًا جديدًا في خطاب الدّكتور البوطي.

هذه المرّة كان الخطاب أشدّ التفافًا حول النّظام وجيشه وأبعد ما يكون عن روح التّوازن التي حاول الدّكتور البوطي جاهدًا التحلّي به والتّأكيد على أنّه موقفه في السّنة الأولى دون نجاح حقيقيّ.

  • جيشُ الأسد هو "الجيش العقائديّ"

في منتصف شهر رمضان الثّاني في الثّورة السوريّة؛ تمامًا في الثّالث من شهر آب "أغسطس" 2012م خطب الدّكتور البوطي خطبةً بعنوان "خير الخطائين التوابون" كان جلّها عن الجيش السوريّ، وفيها وصفه بأنّه جيش "عقائدي" مفسّرًا هذا الوصف ومدافعًا عنه، وكان ممّا قاله فيها:

"لقد وُصِفَ ــ وما أكثر ما وُصِفَ هذا الجيش ــ بالجيش العقائدي، هل لنا أن نعلم ما معنى أنه جيش عقائدي؟

عباد الله: ليس لذلك إلا معنى واحد، وما ينبغي أن يكون له إلا معنى واحد.

أولًا: معنى أنّه جيش عقائدي أنّه يتمتّع بعقيدةٍ إيمانيّة بالله سبحانه وتعالى الواحد الأحد، يتمتّع بالإيمان الجازم بأن الله سبحانه وتعالى هو قيّوم السّموات والأرض، هو النّافع فلا نافعَ من دونه، وهو الضارّ فلا ضارّ من دونه، وهو الوليّ فليس ثمّة وليّ من بعد ولا من قبل.

والمعنى الثاني لوصفه بالجيش العقائدي: أنه يتمتّع أو ينبغي أن يتمتّع بالاعتقاد الجازم بأن واجبه الذي أناطه الله عز وجل به وشرّفه به حراسة القيم كلها، حراسة كل شبر وشبر من هذا الوطن المقدس، حماية الحقوق الماديّة والمعنوية، هذا هو المعنى الثاني لوصف الجيش بالعقائدي.

المعنى الثالث: أنّ هذا الواجب الذي يجب أن يستقرّ في كيان كل فرد منه ما ينبغي أن يخضع لمساومة ما مهما علا الثّمن فيما يتصور ومهما كثرت المغريات فيما قد يتصور، هذا هو باختصار معنى كون هذا الجيش جيشًا عقائديًا، أوّل معانيه أنّه يتمتّع بالعقيدة الجازمة أنّ الله حقّ وبأنّه هو وحده قيّوم السّموات والأرض وأنه المستغاث وأنّه المستعان".

فالجيش السوريّ عند الدّكتور البوطي جيشٌ عقائديّ بمعنى أنّه يتمتّع بعقيدةٍ إيمانيّةٍ راسخة، وهو حارس للقيم والمقدّسات، وهو فوق المساومات والتّنازلات.

  • التّدثيرُ بالوصايا والدّعوات لجيشِ الخوارق والمعجزات

انطلاقًا من اعتقاد الدّكتور البوطي أنّ الجيش السوريّ هو جيش عقائديّ مؤمن فإنّه كان يمارس معه دور النّاصح مستحضرًا دور علماء السّلف مع جيوش الفاتحين إذ كانوا يدثّرونهم بالوصايا ويحمّلونهم النّصائح ويحفّونهم بالدّعوات قبل انطلاقهم لمقاتلة أهل الباطل.

ولا نكاد نجد خطبةً يذكر فيها الجيش إلّا ويذكّره فيها بالتّوبة وكثرة الالتجاء إلى الله تعالى والدّعاء له وحثّ المسلمين على الدّعاء له بالنّصر والثّبات.

ولا يوفّر الدّكتور البوطي الجهد بين يدي هذه النّصائح أن يمجّد هذا الجيش رافعًا إيّاه إلى مصاف الأولياء الذين يُجري الله تعالى على أيديهم الخوارق والمعجزات.

ففي خطبة جمعة بعنوان "نصيحة بين يدي رمضان" في العشرين من تموز "يوليو" 2012م قال الدّكتور البوطي:

"يطيب لي أن أتوجه السّاعة من على هذا المنبر إلى جيشنا الشامخ بإيمانه، الشامخ بجبهته التي لا تلين ولا تذلّ ولا تهون لأي عدو من الأعداء، أقول لرجال هذا الجيش كلهم:
إنكم تتحمّلون اليوم تبعةً لا أظنّ أن في جيوش العالم بل في دول العالم من تحمّل مثلها قبل اليوم ولقد عدتُ إلى التاريخ القصيّ القديم والحديث فلم أعثر على جيشٍ في دولة قد تحمّل هذه التّبعة إلى اليوم، وشاء الله عز وجل أن يتحمّلها جيشنا.
أمام هذه التّبعة الخاصّة المتميّزة التي يتحمّلها جيشنا اليوم ينبغي بالمقابل أن يتحلّى بمزية تتكافأ مع هذه التّبعة ويتكوّن منهما ميزان عدل متكافئ، ما هي هذه المزيّة التي ينبغي أن يتحلّى بها جيشنا بصورة خاصة ربما، كما أنّه يتحمّل هذه التّبعة اليوم بصورة خاصة.

إن هذه المزيّة تتلخّص في أن ما يتمتّع جيشنا به من الجبهة الناصعة الشامخة لا بد من أن يتوّج هذا الشموخ بذلّ العبودية لله ولا بد أن يتوّج هذا الشّموخ بذلّ السّجود لمولانا وخالقنا جلّ جلاله، وعندئذٍ يتحقّق ما نصبو إليه، وعندئذٍ يضربُ هذا الجيش المثل الأعلى في التّعالي والتغلب على سائر القوى التي تتوافد إليه من شرقٍ وغرب وشمال وجنوب عندئذ يستطيع أن يحقق الخوارق والمعجزات لا بل سيخلق الله عز وجل على يديه الخوارق والمعجزات".

  • جيش بمرتبة الصّحابة رضوان الله تعالى عنهم

وصلَ الأمر بتمجيد الجيش والانحياز له بناءً على النّظرة العقائديّة عند الدّكتور البوطي إلى أن يراه قد بلغ مرتبة الصّحابة في عمله الجهاديّ القتالي، وهو يحتاج إلى التّوبة ومراعاة حقّ الله تعالى في أفعاله ليكون في منزلة الصّحابة تمامًا دون نقصان عنهم.

في خطبة الجمعة بعنوان "أيهما أسوأ المبالغة في حب رسول الله أم المبالغة في العصبية للذات؟" وكانت بتاريخ الحادي والعشرين من شهر كانون الأوّل "ديسمبر" عام 2012م ختم الدّكتور البوطي خطبته التي كان يذمّ فيها المبالغة في العصبيّة للذّات بجملةٍ هي من أكثر الجمل مبالغةً في العصبيّةً إذ قال:

"والله ليس بين أفراد هذا الجيش وبين أن يكونوا في رتبة أصحاب رسول الله إلا أن يرعوا حق الله في أنفسهم وأن يُقبلوا إلى الله وهم تائبون وهم ملتزمون بأمر الله جهد استطاعتهم لا أقول أكثر".

هنا يدافع مؤيّدو الدّكتور البوطي عن هذا التصريح بأنّه قيّده بتوبة أفراد الجيش والتزام أوامر الله جهد استطاعتهم حتّى يبلغوا مرتبة الصّحابة، لكنّ الأهمّ هو أنّ التصريح يعني بالضّرورة أنّ الدّكتور البوطي يعدّ الأعمال القتاليّة للجيش السوري مطابقةً لجهاد الصّحابة في المنطلقات والمضامين وكلّ ما يحتاجُه أفراد الجيش لاستكمال الوصول إلى مرتبة الصّحابة بعد أن حقّقوا الرّكن الأهم وهو بلوغهم مرتبة الصّحابة في العمل الجهاديّ هو أن يحقّقوا التّوبة ليكونوا كالصّحابة تمامًا دون نقصانٍ عنهم في القدر والمكانة.

وهنا يبلغُ الدّكتور البوطي منزلةً غير مسبوقةً في تمجيد جيش الأسد، وهي تنسجمُ مع المبالغة التي يتّصف بها وانطبعت بها شخصيّته وكلامه حبًّا وكرهًا في التّعاطي مع القضايا المختلفة.

  • تمنّي القتال في صفوف جيش الأسد

ما دام هذا الجيش عقائديًّا مؤمنًا يمارس الجهاد بأجلى وأنصع صوره، ويُجري الله على يديه الخوارق والمعجزات، وقد بلغ مرتبة الصّحابة في عمليّاته القتاليّة؛ فمن الطّبيعيّ أن يعلن الدّكتور البوطي رغبته وأمنيته أن يكون في صفوف هذا الجيش، ويبثّ تحسّره على فوات نصيبه من المشاركة في القتال.

ومن الطبيعيّ أيضًا أن يدعو الدّكتور البوطي وحاله هذه الحال إلى النّفير وحثّ النّاس على الانخراط في صفوف هذا الجيش والقتال معه في مواجهة المؤامرة الكونيّة.

في الخطبة قبل الأخيرة له في الحياة؛ في الثّامن من شهر آذار "مارس" 2013م وكان عنوانها "قاتلوا أولياء الشيطان ولا تكونوا جنودًا لهم" يقول الدّكتور البوطي:

"كلّنا مدعوون إلى الاستنفار، إلى أن نكون مع هذا الجيش جسمًا واحدًا، كتلةً واحدةً، حقيقةً واحدةً تتلّظى وتقذف باللّهب في وجوه هؤلاء المرتزقة الذين يُقْذَفُ بهم إلينا من كل جانب، من كلّ جهة، من كل حدب، يُقْذَفُ بهم إلينا مدججين بكامل الأسلحة وقد مُلِئَتْ جيوبهم بالأموال التي كانت نفوسهم تطمح إليها.

يا عباد الله: إنني لأخجل وأنا أتحدّث عن نفسي وأصدقكم عندما أتابع خبر جهود وجهاد هذا الجيش الباسل؛ أقول: الباسل نعم، ولولا بسالته لأحيط بنا اليوم، ولولا بسالته لرأيتنا قد طُرِدْنَا من بيوتنا اليوم، ولولا بسالته لاستحالت أزقتنا وشوارعنا إلى أنهر من الدماء".

ثمّ يقول: "أنا أخجل وأقول لكم: عندما أتابع أخبار مواقف جيشنا هذا أنظر فأجد أن موقفي هو موقف المتفرج، موقفي هو موقف الذي يسمع ويعلق، كم وكم كان يبعث النشوة في نفسي أن أكون واحدًا ممن يشترك مع هؤلاء الإخوة في الدّفاع عن القيم، في الدّفاع عن الأرض والعرض، في الدّفاع عن المقدسات ولكن وزَّعَ الله عز وجل الاختصاصات ومع ذلك فإن بوسع باب هذه الاختصاصات مهما تنوّعت أن تُصَبَّ جمعاء في خندق واحد مع ما يقوم به جيشنا للانتصار بالحق وللدفاع عن حمى هذه الأرض المقدسة المباركة يا عباد الله".

  • مهاجمة الفصائل المسلحة للمعارضة ومقارنتها بالجيش السّوريّ

لا تستقيم طريقة الدّكتور البوطي في تمجيد جيش النّظام السّوري كلّ هذا التّمجيد دون مهاجمة الفصائل المقاتلة في المعارضة السّوريّة، وهذا هو ما كان بالفعل.

فما فتئ يهاجم هذه الفصائل واصفًا إياها بالعمالة والارتزاق في مقابلة الجيش السوريّ المجاهد المؤمن.

ففي الخطبة التي وصف فيها الجيش السوريّ بأنّه جيش عقائديّ وفسّر هذا الوصف قال ممهّدًا بين يدي ذلك بالحديث عن نقيض هذا الحيش العقائديّ:

"هل علمتم أنّ أميركا ومعها الصّهيونية العالمية قد أعلنت الجهاد الإسلاميّ المقدس؟

نعم، لقد أعلنت ذلك على ألسنة عملائها وذيولها في هذه المنطقة، ولكن ما هو الجيش الذي اعتمدت عليه أميركا في هذا الجهاد الإسلاميّ المقدّس الذي أعلنته من خلال ألسنة عملائها وذيولها في منطقتنا كما قلت لكم؟

 إنه عبارة عن أمشاج وأخلاط من مرتزقة الآفاق سيقوا وجُمِّعُوا بأزمَّةٍ من الشّهوات الآسنة التي يسيل لعابهم عليها، هذا هو الجيش الذي اعتمدته أميركا وصهيونيّتها العالمية.

بقي أن نتساءل ما الغاية الإسلامية التي ينبغي أن تتحقق من وراء هذا الجهاد الأمثل الذي تعلنه أميركا؟

الغاية هي يا عباد الله القضاء على الناس الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالخيرية في هذه البقعة المباركة وذلك عندما تحدث عن الشام قائلًا في حديث صحيح: "عليكم بالشام فإنّها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده"، هي شهادة يعتزّ بها كلّ من رأى أن الله عزّ وجل قد أقامه من عالمه الواسع العريض هذا في هذه البقعة المباركة.
فالغاية القدسيّة الأولى من هذا الجهاد الإسلامي هو القضاء على هؤلاء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشهد لهم بالخيرية.
الغاية الثانية تقطيع هذه الدولة وتحويلها إلى أمشاج لا حراك فيها ولا حياة من أجل أن تسرح إسرائيل وتمرح، ومن أجل أن تتبيّن الأماكن المحدّدة لمشاريعها التي طال انتظارها للبدء بها ولتحقيقها، مشاريع في جنوب سوريا، مشاريع في البادية، مشاريع أخرى في الساحل".

 

  • رفض انتقاد الجيش السوري بذريعة تصيّد الأخطاء

وصل الدّكتور البوطي إلى قناعةٍ راسخة بأنّ جيش النّظام يسيرُ بخطىً وئيدةٍ في طريق الإصلاح الإيمانيّ، فلذلك كان يرفض نقل مشاهد الجرائم ــ التي يسميها الدّكتور البوطي الأخطاء ــ لأنّ هذا يثيرُ الفتنة وهو نوعٌ من تصيّد الأخطاء غير الأخلاقي.

ففي الخطبة التي ألقاها في الثّامن والعشرين من شهر أيلول "سبتمبر" 2012م بعنوان "تذكرة من أمير المؤمنين عمر للجيش السوري" يقول الدّكتور البوطي:

"كما أن بلدنا هذا يسير في طريق الإصلاح على كلّ المستويات فإنّ من أهمّ المستويات التي يسري فيها وإليها الإصلاح؛ الجيش الذي ينبغي أن نعتز به دائمًا ولا أكتمكم بل لا أفشي سرًا إن قلت: لسوف تشهد الأيام القادمة أنّ هذا الجيش قد ظهرت هويته الإيمانيّة بشكلٍ أجلى، هويته الإيمانية بالله، هوية الاصطلاح مع الله، هوية الانضباط بالجهاد الذي أمره الله عز وجل به لسوف تتألّق عمّا قريب أكثر مما هي ظاهرة اليوم.
وفي لقاء مشهود قبل عام تقريبًا أعلن ممثل أكبر سلطة في هذه الدولة أن كلّ فرد في هذا الجيش لا أقول يجوز بل ينبغي أن يؤدي واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى أيًا كانت، وما ينبغي أن يجد عنتًا أو يجد مقاومةً في طريقه إلى القيام بهذا الواجب.

ولئن كنتم تسمعون بين الحين والآخر أو ترون في بعض المواقع ما يذكر بأخطاء حصلت فيما مضى في الجيش فاعلموا أن هذا إنّما هو سعي للاصطياد بالماء العكر، بل إنّما هو سعي لتعكير الماء الصّافي للاصطياد فيه، إنّما هو سعي من أناس ينفخون في رماد الفتنة الطائفيّة أملًا أن يعود هذا الرماد نارًا، ينفخون بين الحين والآخر في هذا الرّماد متأمّلين أن الرّماد قد يعود إلى نار ملتهبة لكن الرّماد لن يعود إلى نار، وأنا لا أقول: الفتنة نائمة بل أقول: الفتنة ميتة ولا أقول لعن الله من أيقظها بل أقول: لعن الله من حاول إحياءها ودمر الله سبحانه وتعالى من حاول إحياءها".

وكأنّي بالدّكتور البوطي يردّد معبّرًا عن حاله وموقفه من نظام الأسد والجيش السّوري مع أم كلثوم التي كان يحبّ سماعها كثيرًا:

 

كأنّي طافَ بي ركب اللّيالي

يحدّث عنكَ في الدّنيا وعنّي

 

على أنّي أغالطُ فيكَ سمعي

وتبصر فيك غير الشّكّ عينِي

 

وما أنا بالمصدِّق فيك قولًا

ولكنّي شقيتُ بحسنِ ظنّي

 

وبعد معرفة منهجيّة الدّكتور البوطي في التّعامل مع جيش الأسد، يغدو من الضّروريّ أن نتوقّف مع موقفه من علماء سوريا الذين انحازوا إلى الثّورة وانضمّوا إلى صفوف المعارضة، وهذا ما سيكون ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.