البوطي.. ما وراء كلمة افتتاح القرن الخامس عشر الهجري

2020.08.25 | 00:21 دمشق

albwty.jpg
+A
حجم الخط
-A

 لماذا مدرّج جامعة دمشق؟!

الجهةُ المنظّمة للاحتفال بذكرى دخول القرن الخامس عشر الهجري هي وزارة الأوقاف التي كان على رأسها الدّكتور محمّد محمّد الخطيب، ومن البديهيّ أن يتم إقامة الاحتفال في مسجدٍ كجامع بني أميّة مثلًا لما له من دلالات تاريخيّة، ولأنّه كان مركزًا للاحتفالات الدّينيّة عمومًا، ثمّ إنّ المساجد هي التي تتبع لوزارة الأوقاف.

غيرَ أنّ "الجهات المختصّة" اختارت مدرّج جامعة دمشقَ مكانًا للاحتفال، وهو تابعٌ لوزارة التّعليم العالي، وقد تمّ اختيار جامعة دمشق لإحياء هذه المناسبة التّاريخيّة لما لهذا المكان من رمزيّةٍ كبيرة في الصّراع بين حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين.

فجامعة دمشقَ كانت أهمّ معاقل الإخوان المسلمين، بل هم من أسّس كليّة الشّريعة في جامعة دمشق؛ إذ أُسست على يدي الدّكتور مصطفى السّباعي والدّكتور محمّد المبارك.

وإقامة الاحتفال في ذلك الوقت الذي تحتدمُ فيه المعركة مع الإخوان المسلمين في جامعة دمشق هو محاولةٌ من نظام الأسد نفيَ الصّلة بين الإخوان المسلمين والجامعة من جهة، وتأكيد التفاف هذا الصّرح العلميّ الأكاديميّ الكبير حول حافظ الأسد في حربه عليهم من جهةٍ ثانية، ولهذا كانت كلمة الدّكتور البوطي في هذا الاحتفال ليست بوصفه خطيبًا أو داعيةً أو أحد "أرباب الشّعائر الدّينيّة" كما يحلو للنّظام تسمية العاملين في الحقل الدّينيّ، وكما يفترضُ أن تكون صفتُه في حفلٍ ترعاه وزارة الأوقاف؛ بل ألقى في الاحتفال كلمةَ جامعة دمشق.

فلكم أن تتخيّلوا أن ّ كلمة جامعة دمشق التي تتبع لوزارة التّعليم العالي يكلّفه بها ويطلبها منه وزير الأوقاف الدّكتور محمّد محمّد الخطيب!

 

وجهًا لوجه للمرّة الأولى

كان هذا أوّل لقاء وجهاً لوجه بين الدّكتور البوطي وحافظ الأسد، ويبيّن الدّكتور البوطي ذلك ويفصّل القول في منهجه الذي اتّبعه في الكلمة إذ يقول في مقالة له عنوانها "إلى هواة الأخيلة الكاذبة" جعلها مقدّمةً لكتابه "هذا ما قلته أمام بعض الملوك والرؤساء":

"ومنذ صدر حياتي العلميّة والاجتماعيّة، إلى أوّل الثمانينيات من القرن الماضي، لم أكن قد دخلت في تجربة الخوض مع الحكام في أي مواجهة أو مجابهة أو حوار. ثم شاء الله عز وجل أن أبدأ الخطوة الأولى على هذا الطريق فألقيتُ كلمةَ جامعة دمشق أمام الرّئيس حافظ الأسد رحمه الله، في الحفل الذي أُقيم على مدرّج جامعة دمشق، بمناسبة دخول القرن الخامس عشر الهجري، وإنّي لأذكر أنّني استنصحتُ والدي رحمه الله في الأمر، فوضعني من خلال نصيحةٍ طويلةٍ لا مجالَ لسردها هنا، على رأس صراطٍ لا ألتفتُ فيه يمنةً إلى النّاس، ولا يسرةً إلى الحكام، بل أتّجه فيه إلى مرضاة الله وحده، وكانت كلمتي التي ألقيتها في تلك المناسبة من وحي هذا المنهج".

وفعلًا كانت هذه الكلمة هي البوّابة التي ولجَ منها الدّكتور البوطي إلى علاقةٍ مباشرةٍ مع حافظ الأسد؛ هذه العلاقةُ التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في مسار حياةِ الدّكتور البوطي من جهة، وكان لها أثرٌ بالغٌ في صناعةِ الوعيّ الشّرعيّ في سوريا في مرحلة ما بعد الثّمانينيات.

 

الكلمة بين الترحيبِ والتّهديد

لاقت الكلمة صدىً كبيراً، وترحيباً من دوائر مختلفة على المستوى الشّعبيّ وفي إطار الجسم الدّينيّ، وقد رأى فيها كثيرٌ من العلماء والدّعاة في دمشقَ آنذاكَ جرأةً كبيرةً في سياقها وأسلوبها وتوقيتها، وكلمةَ حقّ ناصعة؛ فقد كانت بعيدةً عن المجاملة، ووجّهت نصحاً واضحاً لحافظ الأسد، ممّا جعل العديد من هؤلاء العلماء والدّعاة يتهامسون فيما بينهم بأنّ مصير الدّكتور البوطي سيكون الاعتقال عقب هذه الكلمة فقد قال فيها ما لم يعتد الآخرون على قوله أمام حافظ الأسد الذي يضربُ به المثل في الجبروت والطّغيان، وفي وقتٍ بالغ الحساسية يعلو فيه غبار المعركة بينه وبين الإخوان المسلمين.

ولكنّ هذا لم يحدُث، فلم يُعتَقَل الدّكتور البوطي ولم يوبّخ بل على العكس تماماً وصلته عباراتُ الثّناءِ والشّكر من حافظ الأسد.

وفي المقابل بيّن الدّكتور البوطي في أكثر من مناسبة أنّ الكلمة التي لاقت ترحيباً وثناءً من حافظ الأسد على الرّغم ممّا فيها من نصحٍ واضحٍ صريحٍ له؛ لم ترُق لما قال إنّها فصائل من جماعة الإخوان المسلمين، وذكرَ أنّه تلقّى تهديدات من رؤوس الجماعة التي كان يخافُ منها الدّعاة والعلماء أكثر من خوفهم من نظام حافظ الأسد على حدّ تعبيره!

فيقول في مقالته "إلى هواة الأخيلة الكاذبة": "ولعلّ القارئ يذكر أنَّ عاصفةَ مشكلاتٍ أثارتها فصائل من الإخوان مع الدّولة كانت آنذاك على أشدّها؛ وكان جلّ بل كلّ العاملين في الحقل الإسلامي، يتّقون غضبةَ تلك الحركات أكثر مما يتّقون الدّولة وعقابها، فكانوا يلوذون بالتّجاهل والصّمت، مهما سئلوا عن موقف الشريعة الإسلامية من تلك التصرّفات، ومهما سئلوا عن موقف الشّريعة من طريقة مجابهة الدولة لها!

فلما دخلتُ ميدان هذه التجربة، وألقيتُ كلمتي في ذلك الجوّ العاصف، أمام الرئيس رحمه الله، مستلهمًا رضا الله وحده، لم يحُل عظيمُ رضا كثيرٍ من النّاس بها دونَ تهديدٍ خفيٍّ تلقّيته من بعضِ رؤوس الجماعة، لأنّي أقررتُ بحكم الرّئيس في كلمتي تلك، ودعوتُ له، ووصفته فيها بقائد هذه الأمة!"

يمكننا القول: إنّ هذه الكلمة وهذا اللّقاء بين الدّكتور البوطي وحافظ الأسد كانا نقطة التّحوّل الحقيقيّة والمفصليّة في طبيعة العلاقة بين الدّكتور البوطي ونظام الأسد، وما كان بعدهما مختلفٌ تمامًا عمّا كان عليه قبلهما من حيثُ طبيعة العلاقة وشكلها، ومن حيث درجة انخراطه في فلك المنظومة الحاكمة.

لم يعتقل حافظ الأسد الدّكتور البوطي رغم أنّه قال فعلًا ما لم يكن يجرؤ أحدٌ على قوله في حضرته

لم يعتقل حافظ الأسد الدّكتور البوطي رغم أنّه قال فعلًا ما لم يكن يجرؤ أحدٌ على قوله في حضرته، بل استطاع بدهائه ودهاء المنظومة الأمنيّة المحيطة به أن يهيمنَ على الدّكتور البوطي ليفعل ما يريدون دون إملاءٍ مباشرٍ منهم، فقد استطاعوا امتلاك مفاتيح شخصيّته.

كانت هذه الكلمة فاتحة لعلاقةٍ شخصيّةٍ طويلةٍ وعميقةٍ ووثيقةٍ بين الدّكتور البوطي وحافظ الأسد، اختاره فيها الأسد متجاوزًا أسماء كبيرةً كانت موجودةً وداعمةً له بشدّة في الحقل الدّينيّ السوريّ من أمثال الشّيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهوريّة الذي كان له دورٌ بالغ في تثبيت حكم حافظ الأسد وترسيخ مشروعيّته في سدّة الحكم؛ فعلى الرّغم من الحظوة التي كان يتمتّع بها الشّيخ أحمد كفتارو عند حافظ الأسد وعلى الرّغم من الفارق في السنّ والسّمعة والرّمزيّة بين الدّكتور البوطي الذي لم يكن أكثر من مدرّسٍ في كليّة الشريعة آنذاك وبين الشّيخ أحمد كفتارو؛ فإنّ الأسد فضّلَ ترسيخ العلاقة مع الدّكتور البوطي وتصديره دون الإخلال بالمستوى الثّابت للعلاقة مع الشّيخ أحمد كفتارو.

فلماذا حرص حافظ الأسد على العلاقة مع الدّكتور البوطي متجاوزًا الأسماء الدّعويّة والشّرعية التي كانت لها رمزيّتها وحضورها المجتمعيّ آنذاك؟ وما هي المنهجيّة التي استطاع من خلالها حافظ الأسد الهيمنة على الدّكتور البوطي؟

هذا ما نجيبُ عنه تفصيلًا بإذن الله تعالى في المقال القادم