البرُّ والصِّلة عند الأسرة الحاكمة

2021.10.16 | 07:08 دمشق

rft-alasd-bshar-alasd.jpg
+A
حجم الخط
-A

عاد الرجل الثاني يومًا في سوريا إليها، بعد غياب دام أربعين سنة، ليس من بحر الضياع، ولا من وراء جبل قاف، وإنما من الجهاد والكفاح سيرًا على هدى عبد الرحمن الداخل الأموي، وكان عبد الرحمن الداخل قد ذهب وحده من غير درهم ولا دينار هاربًا من بني العباس، وقطع قارتين مشيًا على الأقدام، وفتح الأندلس، وبنى أجمل حضارة في الأرض في زمنه.
أما صاحبنا أبو دريد الرفيق البعثي الاشتراكي التقدمي المحارب ضد الرجعية، وزميلنا في اتحاد الكتاب العرب وزميلنا في المنافي، فقد حمل معه أموال الشعب السوري كلها، كي يستثمرها لهم، ولم يترك قرشًا واحد في البنك بشهادة الشاهد من أهلها، وزير الدفاع مصطفى طلاس صاحب الأوسمة في معارك الطبخ والسرير وزراعة الزهور، وهي أموال نظيفة، لكنه ما إن لمسها حتى اتّسخت وصارت قذرة، لا تُطّهر إلا بغسلها سبع مرات إحداهن في التراب،

كان رفعت بن ناعسة أذكى من طارق بن زياد الذي أحرق السفن وراءه، فلم يحرق السفن، حتى يعود بإحداها ليعزّي بالقديسة والدته، وكان يتردد على سوريا حتى آواخر الثمانينيات

واصطحب معه حاشيته من المقاتلات المظليات الجميلات، والمظليين اللطيفين، وقصد الأندلس، لإعادة فتحها، واستعادة مجد الآباء والأجداد وبناء قرطبة ثانية، فإن كان الأمويون قد بنوا أندلسًا، فإن أتباع النظام الذين بنوا مزّة 86  لقادرين على أندلس أعظم منها.

وكان رفعت بن ناعسة أذكى من طارق بن زياد الذي أحرق السفن وراءه، فلم يحرق السفن، حتى يعود بإحداها ليعزّي بالقديسة والدته، وكان يتردد على سوريا حتى آواخر الثمانينيات، فالعائلة الحاكمة عائلة متراحمة مشهورة بالبرّ والصلة، ولم يبلغ الحقد بأخيه حافظ الأسد على أخيه المنقلب، بل المنقلب الوحيد، أن يحرمه من حضور جنازة والدته، وها هو ذا يعود إلى حضن الوطن بعد أن أفلس وحُكم عليه بالسجن أربع سنوات مع وقف التنفيذ ومصادرة أموال الشعب السوري المنهوبة كلها، بعد أن تعب في غسلها وتنظيفها وتطهيرها. أما سبب تركه يهرب قبل يوم من الحكم فسيقت أسباب قيل إنها عمره، لكن الدول الأوروبية تترك منفذا للهرب، حتى يأتي اللصوص إليها بأموال شعوبهم.

وقد زعم أن الأموال هدية من الملك عبد الله ملك السعودية وكان أميرا، وهو عديله في زوجته لينا الشعلان أخت حصة الشعلان، فهي أموال أهل الجزيرة العربية، وفي الحالتين ليست أموالًا جناها بكدّه من التأليف في اتحاد الكتاب العرب، فلم تُقرأ له مقالة واحدة، أو من جهده في الدفاع عن المظلومين الأبرياء محاميًا عنهم. وقد أثبت بشار الأسد أنه يؤمن بالقيم الثابتة والأعراف السائدة من أن الدم لا يصير ماء، ولا متّة، فالرجل وإن عاد مفلسًا فهو من عظام الرقبة الطويلة، ويظن أن بيته لا يخلو من العظام، وله أموال في غير فرنسا وإسبانيا، فقد وزع أمواله في أنحاء الأرض، ولم يضع بيضاته في سلة واحدة، وهي أموال استثمرت في الدول المساحلة للماء حتى يحسن غسلها. درس ابن أخيه قضيته، فوجد أنه لم يبق منه ضرر، فقد شاخ كثيرًا، وليس في البنك السوري ما يُنهب هذه المرة، بل إن لصقر القرداحة فوائد وحظوة عند شعبه، ويستطيع أن يسهم في استعادة وحدتها الطائفية التي مزقها رامي مخلوف، وهو وإن كان الوحيد الذي قام بمحاولة انقلاب على أخيه إبان مرضه، فإن الظروف والأحوال تغيرت، وكان حافظ الأسد كثيرًا ما يعذر أخيه رفعت بالطيش، وإنه مناضل ضد الرجعية، ونضاله يغفر له ما تأخر من ذنبه وما تقدم، وقد اكتفى صقر القرداحة إذا جازت التسمية قياسًا بصقر قريش من الغنيمة بالإياب.

إنها المرة الأولى التي تبادر سوريا إلى حماية أحد "مواطنيها الأبرياء"، وتنقذه من ظلم الدول الأوروبية التي تكيل بمكيالين

اجتمعت القيادة، وهي الأسرة الحاكمة، وأعملت النظر، ووجدت أن الرجل الثاني لم يعد ثانيًا، وفات خطره، فقد شاخ وانفضّ عنه الرجال، وقلّ المال، ولا سلطان إلا بالمال والجند، ويمكن الاستفادة من سيرته الدموية، وسمعته القديمة ومجده الآفل في شتاء الطائفية القارس، فهو رجل المذابح والدماء، لا يزال يحتفظ ببعض الهيبة القديمة، فالأغلب أنه سيسد مسدّ المهرج سهيل النمر والناشط بشار برهوم اللذين يجذبان الطائفة الموقّرة، ويستطيع أن يجمع شرف المحمدتين؛ الموالاة والمعارضة، وهو وإن خسر الأموال السورية التي أخذها للاستثمار، فلا يزال  عقله كنزًا من الحكمة والمجد، وسيكون من عوائد عودته إلى حضن الوطن تشجيع النازحين على العودة أيضًا، فلم يقع له استدعاء، ولم يُجرَ معه تحقيق، فنحن في حقبة جديدة. وكانت صوره قد شغلت الرأي العام وحفيدته الحسناء في حضنه، وأثارت هواجع الحنين العائلي، وذكّرت بملصقات الأفلام القديمة مثل فلم "أيام الحب" المصري و"أجمل أيام حياتي" الهندي، وقد تكون عودته تعويضًا نفسيًا عن قلة الأجور برفع الروح المعنوية للطائفة الكريمة، وإثارة الرعب لدى الطائفة الأخرى أو من بقي منهم على قيد الحياة من غير نزوح. إنها المرة الأولى التي تبادر سوريا إلى حماية أحد "مواطنيها الأبرياء"، وتنقذه من ظلم الدول الأوروبية التي تكيل بمكيالين. 

عاد صقر القرداحة إلى عشه بعد أن طوّف في الآفاق والسواحل السياحية، وشبع من الدنيا التي لا يُشبع منها، وأراق كثيرًا دماء العنب، وعلم أن الوطن أكرم مثوى، وقد برّ الرئيس عمه، ووصله أحسن وصل، ولمّ الشمل، فليست الإمارات وحدها التي تمنح الإقامات الذهبية وأهل سوريا أولى بها.

لقد نقّل صقر القرداحة قلبه حيث شاء من الهوى، لكن حنينه ساقه إلى أول منزل، عاد زاهدًا من غير استقبال وتشريف رسمي في المطار، وهذا يدل على حكمته وزهده في الدنيا.