الباحث والبحث العلمي

2020.06.17 | 00:04 دمشق

20200203_1580752511-333-large.jpeg
+A
حجم الخط
-A

أثناء مروري بشرطة حدود مطار إحدى الدول العربية، سألني الشرطي/ المحقق، دون أن ينظر إلى وجهي كعادتهم اللطيفة، عن مهنتي، وذلك على الرغم من وجودها مكتوبة في جواز السفر، فأجبته مبتسماً: باحث. فرسم ابتسامة ملؤها التشفي والخبث وتابع متسائلاً: منذ متى وأنت باحث؟ فعددت السنين لأصرّح بما يقارب 27 عاماً. فتابع النظر في مكان آخر وهو يتابع استنطاقي قائلاً: وهل وجدت شيئاً منذ ذاك الحين؟

وبالطبع، فقد كانت ردة فعلي هي الاستمرار بتصنّع الابتسام أمام هذا الإحراج المهني والذاتي والذي لم يسبق لي أن تعرضت إليه قبل هذه المواجهة الصعبة. ومرّت الأمور على خير، مع ترديده عبارات لا تحمل أي أوقية من الاحترام لمن يعمل في مجالي ولكنني تصنّعت عدم الإصغاء مبرّراً لنفسي صمتي عن الرد بضرورة الوصول إلى العنب بعيداً عن الجدل البيزنطي مع الناطور.

وبعد أن تركته أو بالأحرى، هو الذي تركني طابعاً ختم الدخول الذهبي إلى بلده، مشيت في أروقة المطار أفكر بالذي جرى منذ لحظات مستعرضاً هذه الأعوام الطويلة التي أنفقتها بحثاً دون نتيجة بناء على ما تفضل به شرطينا. وبدأت التفكير حتى في إمكانية صوابية سؤاله المبني على مفهومنا للبحث وللباحث، وخصوصاً منهم من يبحث في العلوم الاجتماعية على أنواعها. ففي ثقافتنا التقليدية، من يقوم بالبحث، من المؤكد يبحث عن أمر حسّي ملموس يمكن له إما أن يجده يوماً أو أن يعتزل البحث عنه ويرضى بما كُتب له فشلاً وخيبةً. والموضوع الذي يتم البحث عنه، وليس فيه، هو أيضاً مادة لها أبعادها وحجمها ووزنها وقيمتها يمكن أن يجدها الباحث في زاوية ما أو في حقل ما. وإن لم يجدها، فقد فشل في مهمته وما عليه إلا الانتقال للبحث عن أمر آخر.

أما الباحث، وخصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية، والذي يفني سنين عمره في الغوص في أعماق موضوعاته حسب التخصّص، فهو في منطق من سبق، لا يعدو أن يكون شخصاً كسولاً لا عمل له إلا في "الحكي" و "الفلسفة". فهل يقتصر الأمر على الشرطي / المحقق؟ أم أنها ظاهرة تشمل نطاقاً أوسع من الناس في مجتمعاتنا؟

من المؤكد بأن تطور المحطات الفضائية التلفزيونية العربية قد ساهم في تسخيف مهنة الباحث لدى شرائح كبيرة من الرأي العام العربي. ويتم ذلك من خلال الطلب الدائم والمتفاقم على "متداخلين" لإملاء منصات البرامج السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة. وهؤلاء الضيوف، نادراً ما يكون من بينهم باحث علمي له شهادته وممارسته وتجربته وكتبه أو مقالاته العلمية المنشورة في مجلات محكمة. فيمكن أن يكون ناشطاً سياسياً، أو مهتماً بالسياسة، أو صديقا لمعد البرنامج، أو كاتب تعليقات في وسائل التواصل متابعاته كبيرة العدد، الخ. ومع أن ما يمكن لهؤلاء أن يطرحوه يكون أحياناً على مستوى مقبول من الأهمية تحليلاً واستنتاجاً، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمنحهم صفة الباحث.

كما أن العدوى قد انتقلت إلى بعض الجمعيات المدنية والتي تسعى لنشر الوعي في مواضيع تهمّ جمهوراً مستهدفاً حسب تخصّص الجمعية. فقد تلجأ أيضاً إلى من تطلق عليهم صفة الباحث لكي تملأ برامجها التدريبية، ويكون غالبهم ليسوا بباحثين. وأيضاً، تقوم بعض المراكز البحثية المرموقة بقصد أو بدون قصد، بنشر ما تسميه بالأبحاث لمن ليسوا بباحثين. وفي الواقع، يمكن لهؤلاء أن يحملوا معلومات غنية الحمولة من أرض الواقع، أو يمكن لهم أيضاً أن يدلوا بشهادات ذات فائدة كبيرة نتيجة انخراطهم في نشاط سياسي أو مجتمعي أو ثقافي ما، ولكنهم في المحصلة ليسوا بباحثين بالمعنى الأكاديمي للكلمة. والقول هذا لا ينتقص من قيمتهم الإنسانية او الإخبارية أو الشخصية في شيء، لكن التمييز بينهم وبين الباحث العلمي هو مفيد دائماً لأنه يعبر عن احترام متراكم. احترام لهم شخصيا بحيث لا نسبغ عليهم ما ليس فيهم. واحترام للباحث الأكاديمي الذي يصرف من يعمل فيه سنينا طويلة في التكوّن العلمي وامتلاك المنهجيات وتعزيز البعد الموضوعي في الأداء بعيدا عن الذاتي. واحترام للموضوع المبحوث فيه نفسه والذي لا يضره أن يتم التطرق إليه كملاحظات عامة واستنتاجات شخصية متاحة للجميع، ولكن أن لا يرفق هذا الحديث بإسباغ صفات ليست دقيقة على من يقوم فيه.

في الغرب عموما، وفي المراكز البحثية العربية النادرة التي وصلت الى مستوى تتجاوز فيه أحيانا نظيراتها الغربية، مهنة البحث العلمي تثقل كاهل صاحبها بمسؤوليات أخلاقية وعلمية كبرى. ومن المعتاد أن يكون هناك درجات في هذا الحقل، فمن باحث متدرب، إلى باحث مساعد، إلى باحث متمكن إلى كبير الباحثين ووصولا في النهاية إلى مدير أبحاث. وليست وسائل الإعلام أو ما شابهها من منابر من يحدد صفة الباحث، إنما هي المؤسسات الأكاديمية. كما لا تقوم هذه الأخيرة بتحديد من هو الصحفي من الطبيب إلى المهندس. كل في مجاله، ولا يضير أحد من أن يعبر عن رأيه التحليلي والذاتي والمبني على معارف شخصية بحقل الآخر دون أن ينتحل صفة الآخر. ولا يضير الإعلام الغربي في شيء من أن يعرّف مدعويه بصفاتهم الحقيقية كمهتم بشأن ما أو ناشط في مجال ما أو طبيب أو مهندس أو باحث.