الانقلاب الدستوري التونسي والسيناريو الأسدي

2021.07.28 | 06:30 دمشق

5da37bd4423604710567e2eb.jpg
+A
حجم الخط
-A

اتخذ الرئيس التونسي قيس السعيد ليلة ٢٦ تموز/يوليو ٢٠٢١ مجموعة من القرارات تحت بند الوضع الاستثنائي، وتمخضت تلك القرارات عن تعطيل العمل بالأحكام الدستورية، فيما جوهره الانقلاب على العملية الدستورية، فقام بتجميد صلاحيات البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، وترأس قيس السعيد النيابة العامة للتحقيق في القضايا التي اتهم بها أعضاء البرلمان وبذلك يكون القاضي الأول والخصم والحكم، تولى أيضاً قيس السعيد السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه هو شخصياً، واتبع ذلك بإقالة رئيس الوزراء الحالي وتعيين بديل له من اختيار رئيس الجمهورية، ويكون رئيس الوزراء مسؤولاً أمام رئيس الجمهورية، ويتم تعيين أعضاء الحكومة الذين يقترحهم رئيس الوزراء بقرار من رئيس الجمهورية.

تشابه ما قام به قيس السعيد إلى حد كبير مع انقلاب حافظ الأسد حين كان وزيرا للدفاع وعضوا للقيادة القطرية لحزب البعث

تتابعت ردود الفعل على الانقلاب الدستوري الذي قام به قيس السعيد، وسط ترحيب كبير ممن دعموا انقلاب السيسي العسكري في مصر، كذلك وسط تهليل واسع من أنصار بشار الأسد، وكل من يعاني عقدة الإخوانوفوبيا في المحيط العربي، حيث رحبت شخصيات سياسية يسارية بالانقلاب وصورته على أنه صراع بين إسلامويين والرئيس فيما هو صراع بين الرئيس والشرعية الدستورية ومكتسبات الثورة التونسية من الديمقراطية.

تشابه ما قام به قيس السعيد إلى حد كبير مع انقلاب حافظ الأسد حين كان وزيرا للدفاع وعضوا للقيادة القطرية لحزب البعث على رفاقه وقادته الحزبيين في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 فيما عرف بالحركة التصحيحية في سبيل تأسيسه لمملكة الصمت الطائفية عام 1971 حين انتخب رئيسا للجمهورية السورية بأغلبية شعبية، واستمد أسباب استمراره من خارجها وما زال حتى الآن الأمر ذاته بعد أن استمد الديكتاتور الابن شرعيته من احتلالات الأرض التي أتى بها إلى سوريا.

ما حصل من ترحيب بعملية الانقلاب الدستوري هو مؤشر على ميل تلك الأطراف التي رحبت لتصفية حساباتها الأيديولوجية، وخلافاتها السياسية مع الإسلاميين بدرجة أولى بعيداً عن المبادئ الديمقراطية واحترام قيم الدستور والشرعية، وهذا بحد ذاته اختبار آخر أمام تلك الأطراف المؤيدة والتي ينتمي جزء كبير منها لتيار اليسار العربي في مدى تغليب تلك الأطراف للقيم والمبادئ الديمقراطية وانتصارها لحقوق الإنسان على إهانتها لتلك المبادئ بالترحيب بخطوات انقلابية انتقامية أجراها الرئيس التونسي الذي لم يلبث أن جلس على مقعد الحكم حتى أظهر نهماً وجشعاً بالحكم شبيه بما أظهره سابقوه.

يتمثل الاختبار الحقيقي للتيارات اليسارية والعلمانية العربية هو أمام مثل هذه الأحداث التاريخية، وانحياز اليسار العربي لخيارات الحكام المستبدين كما حصل في سوريا والآن في تونس ما هو إلا مؤشر على الأزمة المبدأية والأخلاقية الحادة التي تعانيها تلك التيارات واصطفافاتها الغير مبررة تحت خيمة القرارات الشعبوية والخطابات الشعبوية التي لا تحترم مكونات الشعوب العربية كافة بما فيها الإسلاميون الذين لطالما كانوا مكونا أساسيا من مكونات المشهد السياسي في الدول العربية.

فيما تشكل ضريبة الصمت التي قد يتكبدها الشعب التونسي في حال لم يتحرك لإبطال هذا الانقلاب الدستوري نفس الضريبة التي دفعها الشعب السوري لعقود جراء انقلاب حافظ الأسد الذي ترافق حينها بترحيب ودعم شعبي، في حين أدركت قلة مدى خطورة ما قام به حافظ الأسد، حيث كان من الممكن في حينها توسيع الغضب الشعبي في البدايات إلا أن الصمت الشعبي تتابع لعقود حتى قامت الثورة السورية أخيرا، واليوم الشعب التونسي أمام خيار توحد كل شرائحه الحزبية في مواجهة الانقلاب على الشرعية، أو الصمت الذي سيتبعه اجترار التجربة السورية لعقود.

إن لم تدرك مختلف الأطياف الحزبية في تونس في لحظتها هذه أن مهمتها الدفاع عن الديمقراطية وتمسكها بمكتسبات الثورة، وأن ما يحصل بالبلاد ليس مواجهة حزبية بين طرفين من برامج مختلفة، فإنه سيسهل على رئيس الجمهورية المنقلب على الشرعية فرض البرنامج الواحد ورؤية الرجل الواحد على مختلف تيارات الحياة السياسية في تونس، وقد بدأ ذلك بالفعل منذ أن بدأ رئيس الجمهورية بتعطيل عمل البرلمان والحكومة ورفض إنشاء محكمة دستورية تفصل في الخلاف بين السلطات والتوازن بينها، كذلك تجاوزه المتكرر للفصل بين السلطات الثلاث.

أما بالنسبة للجيش التونسي فقد ظل لعقود على الحياد فيما يتعلق بالنزاعات السياسية الداخلية، كما أنه وقف إلى جانب الشعب التونسي في ثورته ضد بن علي، إلا أن ما أقدم عليه قيس السعيد من خطوات واسعة ومنع الجيش التونسي للبرلمانيين من الدخول للبرلمان مؤشر على أن قيس السعيد استمال قيادة الجيش التونسي لصالحه فيما يشكل تغيراً في أدوار الجيش التونسي التي حافظ عليها لعقود متتالية.

ما يحصل الآن من التفافة واسعة على العملية الديمقراطية هي من أكثر السيناريوهات شيوعاً في ظل عمليات التحول الديمقراطي في الدول حديثة التجربة مع الديمقراطية، وعكس ما يصوره المرحبون بالانقلاب الدستوري بأن البدائل والخيارات منحصرة بين ديمقراطية برلمانية أو رئاسية، وإنما البدائل التي يفرضها المشهد منحصرة بين الديمقراطية والرجوع لديكتاتورية حكم الرجل الواحد.

إن درجة المقبولية التي سيبديها الشعب التونسي وأجهزة أمن الدولة والجيش هي التي ستحدد مدى نجاح قيس السعيد في انقلابه على الشرعية، بينما في حال كان التصدي الشعبي والحزبي واسع لهذه الخطوات فإن الجيش التونسي سيعود لصف الشارع وينتظم بالدور التاريخي الذي لم يخرج عنه لعقود في ظل النزاعات السياسية الداخلية.

المطلوب من الأحزاب التونسية أيضا أن تنقذ أدوارها السياسية كاملة بعيداً عن الابتزازات السياسية والتصفيات الحزبية حتى لا تجد نفسها خارج المشهد السياسي

كما الفرصة الآن إلى جانب الشعب التونسي في حال اتخذ خياراً بالتمسك بالخيار الديمقراطي، والتصدي للعبث الرئاسي بالدستور ومكتسبات الثورة، كذلك الفرصة في صف الأحزاب اليسارية العربية في عكسها للأساس الحقوقي الذي تأسست عليه، والذي لطالما خرجت عنه في العقد الأخير حين تغاضت عن مقتل ٩٠٠ مسجون سياسي مصري في السجون المصرية حين دعمت السيسي في مقابل الخيار الديمقراطي الذي أفرز الإسلاميين، كذلك فرصة لها لاستعادة صوتها الذي ساندت فيه براميل بشار الأسد التي انهالت على أبناء شعبه، المطلوب من الأحزاب التونسية أيضا أن تنقذ أدوارها السياسية كاملة بعيداً عن الابتزازات السياسية والتصفيات الحزبية حتى لا تجد نفسها خارج المشهد السياسي وقد أصبح رئيس الجمهورية رئيس البرلمان والقاضي الأول.

كل ما سبق مقترن بوعي الشارع التونسي، والمؤسسات التي من شأنها تعزيز الثقافة الديمقراطية، لكن بحكم غياب الثقافة الديمقراطية لعقود في تونس عن مؤسسات الدولة والمدارس والجامعات، بفعل استيلاء بن علي على مقاليد الحكم لعقود، يترتب على الأحزاب والتيارات المختلفة مهمة توعية الجمهور المهلل بالانقلاب بأن ما يحصل مخالف للتطلعات الثورية وبأنه ليس لتصفية جهة واحدة من الحياة السياسية وإنما لتصفية الحياة السياسية الديمقراطية برمتها وجمع مقاليد الحكم في يد رئيس الجمهورية في انقلابه الذي يشبه انقلابات القصور.