الانشقاق عن إعلام النظام

2020.06.29 | 00:00 دمشق

418e734cd3c27175094fb862.jpg
+A
حجم الخط
-A

هذا كتاب لم يأخذ حقه من القراءة رغم أن مؤلفته، علا عباس، المذيعة السابقة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بدمشق، قد أنهت تدوين مذكراتها هذه في نهاية عام 2012، بعد انشقاقها عن المؤسسة الرسمية بستة أشهر، وأصدرته أولاً بالفرنسية بعنوان «منفية» Exilée عام 2013، ثم بعنوان «ثورة امرأة» بطبعة عربية، في العام التالي 2014.

يجمع الكتاب ببراعة بين ثلاثة مسارات تتناوب على السرد؛ الأول هو خلفيات المذيعة السورية وسيرة عائلتها ودراستها وتكونها، والثاني وصفٌ لأجزاء من كواليس العمل الإعلامي في دولة الأسد، والأخير وقوع هذا الوسط تحت تأثير صفيح الثورة الساخن، وتحولات عباس المتصاعدة التي أفضت إلى الانشقاق.

 

علا عباس.jpg

 

أمي... أنا علوية!

في عتبة كتابها تعتذر المؤلفة لاستخدامها «مفردات طائفية»، لكن هذا أمر لا فكاك منه في مثل حالتها. هي المولودة لأب ماركسي من أصول علوية، وأم شاعرة من منبت إسماعيلي. رغم التقارب الجغرافي لقريتَي الوالدين إلا أن الزواج المختلط لم يمر بسهولة. نشأت عباس في بيت علماني مليءٍ بالكتب يرتاده المثقفون، ولم تكتشف تعريفها الطائفي إلا عبر الآخرين وفي سن متقدمة قليلاً. درست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق، وتأقلمت مع حلم والدتها لها بأن تصبح مذيعة. وفي عام 1999 عملت كمحررة أخبار في الإذاعة، بمساعدة ضابط في القصر الجمهوري كان مرافقاً شخصياً لحافظ الأسد، ابن عم زميلة لها في السكن الجامعي. وفي العام التالي ستعلن وزارة الإعلام عن مسابقة لاختيار مذيعين، فاشتركت فيها وتركت انطباعاً جيداً لدى اللجنة، غير أن النتائج ستخيّب أملها وترشدها إلى الطريق الصحيح من جديد «الواسطة». ومرة أخرى عن طريق ضابط القصر الذي تدخل لتعيينها في إذاعة دمشق عام 2001. ثم انتقلت إلى دعم ضابط مخابرات كبير من أقرباء أبيها.

كلنا كنا مخطئين

يخبرنا هذا المسار، الذي يتناول أجواء العمل في الإعلام السوري وقتها، أن الصور النمطية الشائعة ليست خاطئة دائماً. فوفق وصفها، كانت عباس تعيش حياة باذخة في منزل مؤثث بعناية. تربّي كلباً مدللاً. تكرر عمليات التجميل وكأنها ذاهبة إلى نزهة. فهي تقول إن الدخل في الإذاعة والتلفزيون من الأعلى في سوريا بسبب الحوافز المالية الكبيرة. بينما لم يملك الموظفون أي حافز لتطوير أنفسهم مهنياً لأن ذلك غير مجدٍ في بيئة كانت «وكراً» للفساد والسرقات ووأد الإبداع لمدة سنوات.

وإذا كانت المرحلة الأولى من عهد بشار الأسد قد أثارت الآمال بالتغيير، وجعلت الإعلاميين يتجرؤون على نقد الفساد، فقد كان ذلك يطول الجميع باستثنائه هو وعائلته القريبة، وكبار المسؤولين والضباط والتجار. تقول عباس: «كنا نتهجم على المديرين الضعفاء بعد أن نتأكد من أن واسطتهم محدودة أو مؤقتة».

كما تخبرنا أخيراً عن قصة زواج سري مع تاجر من حلب وابن إحدى أكبر عائلاتها، الذي يوضح لها منذ بداية الثورة: «ما حدث في الثمانينات أذاقنا الويل، نحن تجرعنا الكأس المرّ حينها، ولا نرغب بإعادة الكرّة»، قبل أن ينتفض ويتابع: «ثم إننا مع بشار حتى الموت، نحبه وأنا أحبه». تتذكر عباس هذا وهي تلحظ أن ولاء «معظم» أبناء حلب، ولا سيما الأغنياء والميسورين من التجار، عُمِّم «بمبالغة غير محقة» عليهم جميعاً وعلى العلويين وعلى أبناء الأقليات.

وداعاً لكل الخوف القديم

في آذار 2011 تسمع عباس جلبة رصينة أمام مكتب الوزير، وهمهمات الاحترام التي تصاحب، في العادة، استقبال شخصية مخابراتية أو عسكرية مهمة. سحنة مدير التلفزيون، الخارج للتو من مكتب المدير العام للهيئة، مصفرّة. مدير الإذاعة يجري حواراً غامضاً على الهاتف بصوت خفيض. العيون الزجاجية للجميع تشع بتيار ارتباك غامض. «شوية زعران بدرعا»، على حد تعبير المدير الذي تربطه «صداقات» قوية مع بعض ضباط الأمن و«التقال»، كهربوا الجو المشبع أصلاً بكيمياء الذل، وبدأ التلفيق.

الحياة في دمشق تزداد صعوبةً مع انتشار الحواجز الأمنية وتعثر الخدمات الأساسية كالكهرباء، وخطورةً مع تكرر التفجيرات. أغاني تمجيد بشار الأسد في كل مكان، وليس فقط في التلفزيون. تحولت البرامج إلى فعاليات تشيد به بقدر ما كان الدم يسيل. ولم تكن تلك الأيام سهلة على المذيعة التي كانت تضغط على نفسها للاستمرار في أداء دورها الوظيفي وكبت ما تشاهده من صور المجازر على قناة «الجزيرة»، وقراءة تفاصيلها في صفحات الأصدقاء المعارضين على فيسبوك، وعند لقاء بعضهم بشكل شخصي.

زملاء العمل المتحدرون من مدن ثائرة صاروا محل شبهة من عملاء الأمن، ولا سيما أولئك الحورانيون من درعا، بمن فيهم المؤيدون. بينما ظلت عباس بعيدة عن الاشتباه على العموم لأنها علوية. لم يكن هذا الغطاء مريحاً لها، لا سيما عندما وصل إلى درجة أن أحد أمنيّي المبنى استغل فرصة خلو غرفة المذيعات ليسألها عن مواقف زملائها مما يجري، طامحاً في تجنيدها كمخبرة. ورغم أنها أجابت أنهم، جميعاً، يؤيدون النظام، إلا أن هذه الحادثة سرّعت من إحساسها بأن عليها أن تهجر صورة «العلوية المدعومة».

في يوم من تموز 2012 ستتحرر علا عباس من تبكيت الضمير أخيراً. وتكتب على صفحتها في فيسبوك، قبل أن تغادر البلاد:

«أعلن توقفي عن العمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كي لا أكون شريكة في سفك الدم السوري أو تبرير سفكه. وأعرض بيتي الصغير المتواضع على أي أسرة مهجرة من حمص أو دير الزور أو أي مكان آخر في سوريا المنكوبة. وحلمي الكلي أن أعيش في سوريا الحرة، دولة التعددية والمواطنة، وفيها سنحلم جميعاً بما نريد، حيث سيصبح لأحلامنا معنى. أما وقد أوغل النظام بسفك دماء الأبرياء، وانتهك الأطفال، ودمّر المدن، فلن أدخل مؤسسة وظيفتها الأساسية أن تسبّح بحمده».