الانتفاضة الثانية.. درعا تفضح وهم "انتصار الأسد"

2021.08.10 | 07:18 دمشق

146bd8ac-96f1-439d-8a52-783541688102.jpeg
+A
حجم الخط
-A

مقدمة:

شهدت مدينة درعا وعدة مدن وقرى في المحافظة أحداث انتفاضة مدوية في وجه قوات نظام الأسد، لتستعيد "مهد الثورة" واجهة الأحداث السورية، في انتفاضتها الثانية، بعد 3 سنين من هدوء جبهاتها العسكرية، عقب اتفاق التسوية الذي أبرمته فصائل حوران المسلحة مع نظام الأسد بوساطة روسية، في تأكيد جديد على هشاشة سيطرة النظام السوري وقواته العسكرية والأمنية، وأكذوبة "النصر" التي يحاول النظام تسويقها داخلياً وخارجياً.

وكانت الفصائل المعارضة المسلحة أبرمت في العام 2018، اتفاق تسوية مع نظام الأسد، سلمت بموجبه الفصائل معظم سلاحها الثقيل، وأخلت مقارّها العسكرية، كما سلمت المعابر الحدودية التي كانت تسيطر عليها إلى النظام السوري، وأتاح الاتفاق لنظام الأسد تشغيل المؤسسات الحكومية، وفرض سيطرة أجهزته الأمنية على المحافظة، مع تفعيل تسويات أمنية لأوضاع المطلوبين أمنياً والمتخلفين عن الخدمة العسكرية، بضمانات روسية، شهدت عدة خروق أمنية وعسكرية محدودة خلال السنوات الثلاثة الماضية.

ورغم هدوء جبهات القتال العسكرية، فإن الأحداث الأمنية لم تغب عن مناطق المحافظة، حيث شهدت حوران مئات عمليات الاغتيال الغامضة، طالت قادة عسكريين ومقاتلين سابقين، وناشطين مدنيين وإعلاميين، وحوادث قتل على خلفية تصفية حسابات ثأرية عشائرية وعائلية، وجرائم خطف وطلب فديات، وجرائم متنوعة، ألقت بظلالها الثقيلة على الاستقرار الهش الذي عاشته حوران طوال السنوات الثلاثة الماضية.

ومع تصاعد الخلاف بين فصائل التسوية والجهات الأمنية والعسكرية في النظام السوري على قضايا تسوية أوضاع المطلوبين، والمتخلفين عن الخدمة، نشبت بين الطرفين صدامات متكررة، تحولت في أكثر من مرة إلى اشتباكات محدودة، عمل "الضامن الروسي" على احتوائها، لصالح نظام الأسد غالباً، دون أن يبدي الجانب الروسي الحزم المطلوب لمنع أو للحد من انتهاكات قوات النظام الأمنية والعسكرية، ومحاولاتها خرق اتفاق التسوية وفرض مزيد من السيطرة الأمنية على مناطقَ سَمَحَ الاتفاقُ لعناصر فصائل التسويات وللمدنيين بحريّة نسبية بالحركة والانتقال، مع الحفاظ للنظام السوري على سلطات حكومية واسعة.

وشهدت بدايات شهر حزيران/يونيو الماضي محاولات متكررة من أجهزة أمن النظام السوري للانقضاض على اتفاق التسوية وإلغاء التفاهمات التي ضمنتها القوات الروسية، واجهتها فصائل التسويات والمدنيون بالرفض، ومطالبة الجانب الروسي بالإيفاء بالتزاماته وضماناته الأمنية، وعقدت وفود من الجانبين عدة لقاءات بهدف التوصل إلى حل للخلافات، قابلها النظام السوري برفض مقترحات "اللجنة المركزية" التي مثلت أهالي درعا في اللقاءات، وإصراره على فرض هيمنة كاملة على المحافظة، أتبعها النظام بفرض الحصار على درعا البلد.

وقد شكّل أهالي درعا البلد ما يسمى "اللجنة المركزية" في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2018، بهدف الإشراف والتنسيق والتفاوض على تطبيق اتفاقية التسوية، وتتألف من شخصيات اجتماعية ودينية وبعض قادة الفصائل، وتضم في صفوفها ناشطين بارزين، منهم الشيخ فيصل أبو زيد والعقيد المنشق "أبو منذر الدهني، والمحامي عدنان المسالمة، والطبيب زياد المحاميد، وغيرهم.

درعا.. تحدي أكذوبة سيطرة نظام الأسد

تطورات الأحداث في درعا دفعت مسألة التسوية برمتها إلى واجهة الاختبار؟ فهل يمكن للنظام تحمل تبعات هذه المخاطرة وزعزعة التسوية المبرمة؟ وما الدوافع الحقيقية وراء هذا التصعيد الأخير؟

شكلت محافظة درعا منذ بدء الثورة تحدياً كبيراً للنظام، فطوال السنوات العشر الأخيرة كان النظام يحاول سحق المعارضة في درعا بالكامل، لاستعادة السيطرة على المنطقة التي فجرت في آذار/مارس 2011 أكبر خطر زعزع ثقته بقبضته الأمنية على البلاد، ولإحباط معنويات الثوار وقوى المعارضة الذين علقوا آمالهم على "مهد الثورة" كما سموها. لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فبعد معركة درعا الأخيرة في العام 2018 واتفاقيات التسويات التي رعتها روسيا، لم يستتب الأمر للنظام السوري كما كان يتوقع، وبرزت تحديات متنوعة في وجهه، أبرزها:

  1. اندلعت مظاهرات غاضبة في عدة مناسبات في المحافظة ولأسباب متعددة، دون أي خوف أو خشية من ردة فعل النظام، وكان الأهالي في المناطق المحررة سابقاً الطرف الأقوى في المعادلة، وكان عناصر النظام هم الطرف الخائف من عودة الحراك الثوري، وليس الأهالي، فعلى سبيل المثال، بقيت السيطرة الأمنية لنظام الأسد شكلية في معظم المناطق، حيث لم يكن يتجرأ عنصر من جيش وأمن النظام المتمركزين في حاجز السرايا في درعا المحطة، على التقدم بضعة أمتار باتجاه حي طريق السد المحرر سابقاً والمجاور لدرعا البلد!
  2. شهدت المنطقة صدامات عديدة واشتباكات متواترة، ورغم محدوديتها فإن سقوط قتلى وجرحى في صفوف جيش وقوات أمن وميليشيات النظام بشكل متواصل خلال سنوات التسوية، دفع الموالين للنظام إلى اتهام روسيا بالتساهل في ملف الجنوب، وطالبوا النظام بالتخلي عن عهوده لروسيا والضرب بيد من حديد لفرض السيطرة التامة والمحكمة على درعا.
  3. جاءت الصفعة الأقوى في إعلان محافظة درعا بالكامل في بيان للجان المركزية بتاريخ 23 أيار/مايو مقاطعة الانتخابات الرئاسية التي أجراها نظام الأسد في 25 من شهر أيار/مايو، وأغلق أبناء المحافظة جميع المحال التجارية وأوقفوا وسائط النقل وبدت شوارع المحافظة في يوم الانتخابات كأنها في إضراب عام أو حداد وطني!

كما أحرقت صناديق الاقتراع في عدة مراكز انتخابية وامتنعت المحافظة ولا سيما ريفها المحرر سابقاً عن التصويت، باستثناء الموظفين الحكوميين الذي تم تهديدهم بالعقوبة في حال غياب أحدهم في يوم الانتخابات، وتم إجبارهم على الانتخاب، في مشهد يشابه امتناع الشمال السوري عن المشاركة في هذه الحدث الهزلي.

  1. كان انتشار اللافتات المعارضة والهازئة من الانتخابات موقفاً واضحاً مس هيبة النظام وأصاب ادعاءاته بالسيطرة على المحافظة في مقتل، وهو ما يعتبره كثير من أهالي درعا وناشطيها الدافع الرئيس للنظام للتخطيط للانتقام من محافظة درعا، وتحديداً درعا البلد لأهميتها المعنوية للمحافظة بكاملها.
  2. شكل بقاء قادة ثوريين وعسكريين في درعا بموجب التسوية عامل قلق للنظام، من قدرتهم على الحشد والتعبئة وتصليب مواقف الأهالي بمواجهة محاولات النظام فرض هيمنة أمنية وعسكرية كاملة، فقد جاء على لسان أحد ضباط النظام في أحد الاجتماعات مع لجان التفاوض في درعا، أنّ وجود بعض الشخصيات القيادية التي تملك تأثيراً كبيراً عند الأهالي، ما يزال يشكل عائقاً أمام إحكام النظام لقبضته الأمنية في المنطقة وتجنيد الشباب في جيشه.

ورغم تنفيذ قوات أمن النظام والميليشيات التابعة له، العديد من الاغتيالات لمعارضين وناشطين ثوريين وقياديين سابقين في الجيش الحر ومنشقين عسكريين في درعا، فإن ذلك لم يبدل من موقف القوى الأهلية والثورية من رفض الخضوع للنظام ولم يزحزح موقف المعارضين له في درعا.

كل هذه العوامل مجتمعة دفعت النظام - بغض نظر عن حليفه الروسي - إلى التخطيط للانقلاب على التسوية، فبعد الانتخابات بأيام قليلة بدأت ملامح التجهيز للانتقام من درعا، وسحق المعارضة فيها، والانقلاب على بنود التسوية التي اعتبرها أمين فرع حزب البعث في درعا "حسين الرفاعي" غير عادلة باعتبارها لم تشمل الأسلحة الخفيفة.

وبدأت أصوات مؤيدة لنظام الأسد تتحدث عن ملف التسوية في درعا، باعتبارها مختلفة عن التسويات التي أبرمت في باقي المناطق التي خضعت للتسويات، فقد بقي آلاف المقاتلين في درعا ورفضوا التهجير إلى الشمال، الأمر الذي شجعته روسيا لأسباب تتعلق بعدم قدرة جيش النظام على السيطرة آنذاك على كامل الجنوب، ومراعاة للموقف الدولي، والإسرائيلي خاصة، الرافض لتمدد الميليشيات الإيرانية في الجنوب السوري.

مطالب وضعت لترفض

طرح النظام مطالب تعزز موقفه في حال قبولها، بما يساعد قواته على تركيع حي درعا البلد ابتداء، باعتبار ثواره رأس حربة مقاومة لسيطرة النظام على درعا، وشملت مطالب النظام عدة نقاط، منها:

  1. تسليم الأسلحة الخفيفة وتفتيش المنازل في الحي.
  2. تثبيت حواجز نقاط عسكرية في درعا البلد.
  3. تسليم عدد من المطلوبين أو تهجيرهم إلى الشمال السوري.

وجميع هذه المطالب تتعارض مع بنود التسوية التي نصت على تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة فقط، وعدم التعرض للمواطنين وعناصر الفصائل أو اعتقالهم، وعودة الجيش إلى ثكناته.

ولم يكن خافياً على قادة النظام عندما قدموا هذه المطالب أن الرد عليها سيكون الرفض، فالقبول بها عند أهالي درعا والقوى الثورية في حي درعا البلد كان يعني محاولة إهانة كرامة أهل درعا البلد الصامدين منذ عشر سنوات، وفقدان كل مرتكزات قوة موقفهم، وتطبيق نفس الشروط المذلة على باقي مناطق حوران لاحقاً.

التفاوض على وقع الحصار والحشود العسكرية

لم ينتظر النظام طويلاً بعد رفض مطالبه، إذ بدأ في 26 من أيار/مايو بعد يوم واحد من انتخابات النظام الرئاسية، بتشديد إجراءاته الأمنية على مداخل حي درعا البلد، وبدأ بحشد قواته وتعزيزها بأرتال قادمة من مناطق مختلفة، وأغلق جميع منافذ منطقة درعا البلد، باستثناء طريق سجنة، وقام بتثبيت عدة حواجز هناك بقيادة "مصطفى مسالمة" الملقب بـ "الكسم" وهو أحد أبناء درعا البلد، وكان قبل التسوية قيادياً في فصائل المعارضة، "كتيبة أحفاد خالد بن الوليد"، وأصبح بعد التسوية قائداً لميليشيا تتبع للأمن العسكري، ويتلقى الدعم المباشر من الحرس الثوري الإيراني، وتنسب إليه خلال السنوات الثلاث الماضية جرائم وانتهاكات عديدة، دفعت ثوار درعا لمحاولة اغتياله أكثر من مرة، كان آخرها في منتصف شهر تموز/يوليو الماضي.

شكل فرض الحصار على درعا البلد محاولة ضغط وترهيب للأهالي للتخلي عن موقفهم الداعم للثوار الرافضين لمطالب نظام الأسد، وبدأت معاناة الأهالي من جراء الحصار تتفاقم، وباتوا مضطرين لسلوك طريق طويل من البلد إلى سجنة ثم المحطة، وما يتسبب به الطريق الطويل الخطر من إرهاق وتكاليف مادية على المتنقلين، حيث وصل سعر أجور النقل إلى 800 ل.س في "السرفيس" و10 آلاف في "التكسي"، وبدأت المنطقة تعاني من شح المواد الغذائية والأدوية والمحروقات والمستلزمات الأساسية، ما يضطر الأهالي للذهاب إلى درعا المحطة بطريق ملتف مدته لا تقل عن نصف ساعة في حين كان الطريق المباشر للمحطة يستغرق خمس دقائق!

وعلاوة على ذلك تم حرمان درعا البلد من وصول المساعدات الإنسانية التي يقدمها برنامج الغذاء العالمي.

وعلى وقع معاناة الحصار والترهيب بالحشود العسكرية المتواصلة، وعلى رأسها قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام السوري، إضافة إلى ميليشيات مدعومة من إيران، كميليشيا "الحرس القومي العربي" التي تتلقى الدعم المباشر من الحرس الثوري الإيراني، جرت مفاوضات ولقاءات متكررة بين وفد نظام الأسد، ووفد اللجنة المركزية، لإيجاد حل مقبول من الطرفين ينهي التصعيد.

وتصاعدت تهديدات النظام قبيل عيد الأضحى، إذ هدد رئيس شعبة الأمن العسكري في درعا "لؤي العلي" بالاجتياح العسكري لدرعا البلد، وهدم الجامع العمري، واعتقال المطلوبين في حال لم تتم الاستجابة لمطالبه، كما هدد بإغلاق طريق سجنة، الطريق الوحيد المفتوح إلى مركز المدينة والذي يُغذي درعا البلد، وبذلك يتم إطباق الحصار بالكامل على مناطق درعا البلد وحي طريق السد والمخيم. ولزيادة الضغط النفسي والترهيب على أهالي المنطقة، قام عناصر النظام خلال أيام عيد الأضحى بفتح النار على أحياء درعا البلد، ونشر القناصة، الأمر الذي دفع آلاف القاطنين على أطراف الحي إلى النزوح باتجاه أحياء منطقة درعا المحطة.

وبالتوازي مع رفض الفصائل والأهالي في حي درعا البلد شروط النظام الجائرة مقابل فك الحصار، شهدت مدن وبلدات عدة في حوران حراكاً داعماً بمستويات مختلفة، حيث شهدت مدينتا طفس والحراك مظاهرات شعبية دعمًا للمناطق المحاصرة، وسط مشاركة من قادة سابقين في فصائل المعارضة السورية التي كانت تسيطر على مناطق واسعة من الجنوب السوري قبل نحو ثلاثة أعوام.

إضافة إلى وقفات احتجاجية في بلدات حوض اليرموك، والمزيريب، وتل شهاب، كما انتشرت كتابات على الجدران تناصر الأهالي وتتوعد بمقاومة النظام في حال قرر اقتحامها.

وكانت "اللجنة المركزية" والفعاليات الثورية في درعا طالبت، عبر بيان مشترك، بفك الحصار الذي تفرضه قوات النظام السوري، منذ مطلع حزيران الحالي، على درعا البلد.

وبحلول يوم الإثنين 26 تموز/يوليو كان الطرفان قد توصلا إلى اتفاق يقضي برفع قوات النظام حصارها عن درعا البلد وإزالة الحواجز العسكرية إليها، بمقابل تسليم الفصائل وأهالي درعا البلد 40 بارودة روسية، والسماح لقوات النظام بإقامة 3 نقاط عسكرية، الأولى في مبنى البريد، والثانية قرب مركز الجمارك القديم، والثالثة قرب منطقة الشياح، إضافة إلى تسوية أوضاع المقاتلين الذين امتنعوا سابقاً عن التسوية الأمنية.

وفجر يوم الثلاثاء 27 تموز/يوليو ومع بدء عملية تسوية أوضاع نحو 135 مطلوباً في مقر مخفر شرطة حي المنشية في درعا البلد، دخلت قوات النظام لإقامة النقاط الأمنية التي قضى بها الاتفاق، وقابلتها رشقات من أسلحة عناصر فصائل المعارضة التي اعتبرت دخول مدرعات للنظام خلافاً للاتفاق على دخول قوات المشاة فقط، خرقاً لما تم الاتفاق عليه، كما اعتبر الأهالي أن النظام خالف ترتيبات الاتفاق بدخول قواته دون إبلاغ ومرافقة أعضاء (اللجنة المركزية) وحضورهم عمليات تفتيش المنازل في محيط درعا البلد.

وتطور الاشتباك إلى قصف مكثف صاروخي ومدفعي من قبل قوات النظام على مناطق درعا البلد، أوقع مدنيين بين قتيل وجريح.

 ومع فشل كل جلسة مفاوضات كانت موجات نزوح عائلات المدنيين من مناطق درعا البلد وطريق السد والمخيم إلى درعا المحطة ومناطق جنوب درعا، تتجدد على نحو واسع، مع ما يواجهه النازحون من معاناة تأمين مأوى ومضايقات عناصر الأمن والجيش على الحواجز، واعتقال بعضهم بغرض الضغط والترهيب.

ورغم عودة الطرفين إلى التفاوض من جديد على بنود الاتفاق، وتعدد جولات المفاوضات، وتدخل الجانب الروسي لمتابعة المفاوضات، الذي أبدى موقفاً متصلباً لصالح دعم مطالب نظام الأسد، لم يكن الحل قريباً وبقي التصعيد العسكري مستمراً وقصف قوات النظام متواصلاً.

محاولة اقتحام ومقاومة

في الثامن والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي أعلنت "اللجنة المركزية" فشل المفاوضات مع النظام السوري لإيجاد تسوية وفك الحصار، على خلفية طلب النظام السوري تهجير عشرات العناصر من الفصائل وعائلاتهم من حي درعا البلد، وإقامة 9 نقاط عسكرية ومفارز أمنية في الحي، لتبدأ قوات النظام محاولة اقتحام للحي المحاصر، حيث دخلت عربات مدرعة ودبابات ومجموعة من مشاة الفرقة الرابعة، بغطاء من القصف المدفعي وراجمات الصواريخ ما أسفر عن قتلى وجرحى مدنيين، وتصدت مجموعات من مقاتلي فصائل المعارضة للهجوم، وسقط عدد من جنود النظام قتلى في كمين لمقاتلي المعارضة، انسحبت بعدها قوات النظام وشنت عمليات قصف مكثفة على الحي، وأقامت مواقع للقناصين على أطرافه، أوقعوا عدداً من المدنيين بين قتيل وجريح.

وصبيحة يوم الخميس 29 من حزيران/يونيو شنت فصائل المعارضة هجوماً متزامناً على معظم الحواجز العسكرية والمفارز الأمنية في عدة مناطق في حوران، استعادت خلاله السيطرة على مواقع عديدة لوقت قصير، وأسرت العشرات من ضباط وجنود النظام السوري، العسكريين والأمنيين، كما قطع المقاتلون طريق دمشق عمان الدولي قرب معبر نصيب على الحدود الأردنية السورية، وأصدرت الفصائل واللجنة المركزية بيانات أكدت فيها أن الهجوم الذي أطلقت عليه اسم "معركة الكرامة" يهدف إلى إجبار النظام السوري على وقف عمليات القصف واستهداف المدنيين وفك الحصار عن حي درعا البلد، والعودة إلى تفاهمات اتفاق التسوية المبرم في العام 2018.

دوافع ومدافع إيران حاضرة والغطاء الروسي غائب:

تبدو الدوافع الإيرانية للانقضاض على التسوية في درعا حاضرة، بمثل قوة حضور القوى العسكرية المدعومة من إيران على أطراف درعا البلد، حيث تحاول طهران منذ العام 2018 التغلغل عسكرياً في الجنوب السوري، والالتفاف على التفاهم الدولي الذي رعته روسيا بإبعاد العناصر الإيرانية العسكرية عن الحدود السورية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد حققت طهران نجاحات محدودة على هذا الصعيد حتى الآن، من خلال تجنيد مقاتلين محليين في صفوف ميليشيات يدعمها الحرس الثوري الإيراني، وميليشيا حزب الله اللبناني، وبعضها يتبع مباشرة للأمن العسكري التابع للنظام السوري، كما أن حشود الفرقة الرابعة التي تشكل القوام الأساس للقوات التي وصلت إلى درعا مؤخراً، لا يترك مجالاً للشك بدور إيراني في التصعيد، حيث تهيمن طهران على الفرقة الرابعة، وكانت قد أجرت عمليات دمج لعدد من الميليشيات الموالية لها، في صفوف الفرقة الرابعة على فترات متتالية اعتبارا من العام 2016، وفي مقدمة هذه الميليشيات "حزب الله" السوري، و"لواء الإمام الحسين"، وغيرهما الكثير من الميليشيات الشيعية الأقل عدداً.

وقد تبدو طهران أكثر اهتماماً بالجنوب السوري وترغب بفرض نفوذ عسكري أكبر لها في مناطقه لتعزيز قدرتها على وصول مقاتلين موالين لها إلى حدود إسرائيل، وفرض قواعد اشتباك جديدة بمواجهة تصاعد التوتر مع إسرائيل والولايات المتحدة خلال هذه الفترة، في ضوء هجمات متكررة أميركية لمواقع ميليشيات إيران على الحدود السورية العراقية، وتعثر مفاوضات فيينا، وتكرار الحوادث الأمنية فيما يسمى بحرب الناقلات، في الخليج العربي والبحر الأحمر، وتواصل الهجمات الإسرائيلية لمواقع ميليشياتها في سوريا.

يضاف إلى ذلك رغبة إيران في تأكيد حضورها العسكري في سوريا بمعزل عن القواعد التي فرضتها روسيا على الساحة السورية.

وتبدو جبهة درعا مناسبة لتأكيد الطرفين، السوري والإيراني، قدرتهما على التحرك منفردين في ملف الصراع، في ظل انسداد الأفق أمامها في جبهة إدلب بفعل التفاهمات الروسية التركية، واستمرار سيطرة قوى معارضة قوية ومنظمة في شمال غربي سوريا.

ويغيب الدور الروسي في تصعيد درعا حتى الآن على مستويين، مستوى دور الضامن لاتفاق التسوية الذي تنصل نظام الأسد من معظم بنوده، وخاصة بند الإفراج عن المعتقلين وعودة الموظفين إلى وظائفهم وغيرها الكثير من الالتزامات الروسية، إلى جانب غياب الروس على مستوى دعم حملة النظام السوري، حيث لم تسجل أي طلعة للطيران الحربي الروسي، حتى في أثناء وبعد الهجوم الواسع الذي شنته فصائل المعارضة في درعا ضد مواقع وحواجز لجيش وقوات أمن النظام.

ورغم وجود الضابط الروسي "أسد الله"، في المفاوضات، فإن دوره اقتصر حتى الآن على نقل رسائل النظام، دون أي تدخل جدّي لفرض احترام بنود اتفاق التسوية، فيما بدا لافتاً أن المبعوث الروسي ألكسندر زورين وصل إلى سوريا ليلتقي على الفور أحمد العودة قائد فصيل اللواء الثامن المدعوم من روسيا في مدينة "بصرى الشام" قبل أيام، من دون أي لقاء مع مسؤولين في نظام الأسد، وهو ما فسره مراقبون بعدم رضا روسي عن تصعيد النظام في درعا، ورغبة مقابلة بالحفاظ على واقع النفوذ في الجنوب السوري.

 

موقف صلب لقوى درعا.. وعاجز لمؤسسات المعارضة

في الوقت الذي بدا فيه موقف القوى الأهلية والثورية في درعا متماسكا لجهة رفض محاولات تركيعهم من قبل النظام، وفرض سيطرته التامة على مناطقهم، بدا عجز مؤسسات المعارضة الرسمية متوقعاً وضعف استجابته للأزمة واضحاً.

فاللجنة المركزية وممثلو مناطق درعا قادوا حتى الآن مفاوضاتهم مع وفد النظام بكفاءة وصلابة، وعززوا موقفهم باتصالات مكثفة مع أطراف وشخصيات سورية، وتنسيق إعلامي معقول، دعمته حملات شعبية على وسائل التواصل، وفي أوساط الناشطين السوريين في سوريا والخارج، أدت حتى الآن إلى رفع مستوى الاهتمام الدولي بمسألة حصار درعا البلد ومحاولات اقتحامها، وفرض واقع جديد على تفاهمات التسوية، عبر ترتيب لقاءات وتسليم بيانات إلى مسؤولين نافذين في عدد من الدول بينها دول فاعلة في القضية السورية.

في حين واصلت مؤسسات المعارضة الرسمية تأكيد عجزها عن القيام بأي خطوة جادة تجعل منها ممثلة للمعارضة والثورة السورية، وعجزها عن إيجاد قنوات اتصال مؤثرة مع القوى الدولية الفاعلة، والتأثير في موقفها المتراجع من القضية السورية، وعجزها عن تنسيق أي نشاط ذي معنى يجعل منها جديرة بتطلعات السوريين.

خاتمة:

مع دخول الطرف الروسي على خط المفاوضات بين وفدي النظام وأهالي درعا، وتصاعد الإدانات الدولية، وخاصة الأميركية، لمحاولات النظام خرق اتفاق التسوية، تشير معطيات الواقع – حتى الآن - إلى صعوبة تحقيق النظام السوري ومن خلفه إيران، أهدافهما الرامية إلى فرض سيطرة تامة على مناطق درعا، يعزز هذا الاتجاه موقف روسيا غير الداعم للانقلاب على اتفاق التسوية المبرم بضمانتها في العام 2018، يضاف إلى كل ذلك صلابة موقف القوى الأهلية والثورية في درعا، وإدارتها الصراع والمفاوضات بتنسيق معقول وواقعية مطلوبة.

ورغم أن سقف مطالب نظام الأسد ووفده المفاوض بقي عالياً ولم يقدم حتى الآن التنازلات المطلوبة للتوصل إلى حل، فإن تحركات قواته العسكرية بقيت محدودة رغم ضخامة الحشود، ما يشير إلى حسابات معقدة يحسبها النظام لمخاطر وأضرار فتح معركة في درعا، لا تحظى بدعم حليفه الروسي، وقد يحرم فيها من الغطاء الجوي الروسي الذي نجح بوساطته فقط في إجبار فصائل درعا في العام 2018 على القبول باتفاقية التسوية.

وفي حال بقي الموقف الروسي بعيداً عن دعم النظام في توجهاته ومحاولاته العسكرية فمن المتوقع التوصل إلى حل وسط يمنح النظام السوري بعض مطالبه بإقامة نقاط عسكرية صغيرة في منطقة درعا البلد، وحق إجراء عمليات تفتيش دورية بحضور ممثلين عن اللجنة المركزية، وربما بمواكبة من قوات اللواء الثامن المدعوم من روسيا، ويقوده أحمد العودة، وخروج بعض مقاتلي الفصائل، نزعاً لفتيل الأزمة، وهو أمر متوقع الحصول خاصة بعد إعلان محمد المسالمة، الملقب بـ”الهفو”، ومؤيد حرفوش، وهما قياديان سابقان في فصائل المعارضة خروجهما من درعا البلد، استجابة لأحد مطالب النظام في محاولة لتخفيف التصعيد، وبالتالي فإنه من غير المحتمل أن تؤدي الأزمة الحالية إلى فرض خريطة نفوذ جديدة للمنطقة الجنوبية بشروط جديدة يفرضها النظام، مع استمراره في مواصلة الضغط والترهيب، وتأجيل الحسم العسكري قدر الإمكان لمنع انفجار المنطقة وتفادي غضب أهالي المحافظة واشتعال احتجاجاتها من جديد.