الاقتصاد والثقافة.. بين "البدانة المعرفية" و"السلوك الثقافي"!

2021.07.20 | 06:32 دمشق

e803d873-8f5b-47e3-a2c4-6f53319220ae.png
+A
حجم الخط
-A

الحديث عن الثقافة يستلزم تحديد معناها حيث هي مجموع المعتقدات والقيم والعادات المكتسبة التي تنظم سلوك أعضاء مجتمع معين، يعرّفها البعض أنها ما يبقى لدى الإنسان بعد أن ينسى كل ماتعلمه، فالثقافة هي جملة معارف ذهنية اكتسبها الإنسان خلال حياته وليست حجم المعلومات التي تحفظها الذاكرة البشرية، والواقع أنه من خلال ثقافتنا نتكيّف مع محيطنا المجتمعي والبيئي والتاريخي والسياسي والاقتصادي.

عرّف إدوارد بورنث تايلور الثقافة في كتابه "الثقافة البدائية" ( 1871 ) على أنها "تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات، بالإضافة الي أي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع" بمعنى أن الثقافة ليست أبداً المخزون المعرفي والتي قد تكون ذات أثر سلبي خاصة إذا ترافقت بسوء فهم وميول عصبوية.

يتكون المعنى الثقافي أيضًا من مبادئ ثقافية-حسب رأي روجر كيسنغ في بحثه "نظريات الثقافة"- حيث يكمن المعنى في الأفكار أو القيم التي تحدد كيف تكون الظواهر الثقافية منظمةً ومقيّمةً ومفسّرة، وهي بهذا المعنى فإنه للبحث عن ثقافة شعب علينا أن نتلمسها في المعاني والقيم التي يحملها والتي تشكل الأسس الثقافية التي يبني عليها ثقافته، وتلك المبادئ المعرفية هي مجموع الفرضيات التي تسمح بتمييز جميع الظواهر الثقافية مرتبة ومترابطة. فهل نرى الثقافة كنظام تكيفي مع البيئة المحيطة بالفرد والمجتمع؟ أم الثقافة نظام معرفي؟ أم الثقافة نظام هيكلي؟ أم أن الثقافة -كما يرى- ليفي شتراوس-  هي نظام رمزي يختبئ في تضاعيف الأسطورة والفن والقرابة واللغة حيث تتجلى فيها الأسس العقلية التي تصنع ثقافة الشعب؟

برأي جرانت ماكراكن في بحثه "الثقافة حساب نظري لهيكل وحركة المعنى الثقافي للسلع الاستهلاكية" أن المعنى الثقافي ينتقل في المجتمع الاستهلاكي بلا توقف من مكان إلى آخر، حيث إنه في المسار المعتاد، ينتقل المعنى الثقافي أولاً من العالم المكون ثقافيًا إلى السلع الاستهلاكية ثم من هذه السلع إلى المستهلك الفردي، وأن هنالك عدة أدوات مسؤولة عن هذه الحركة: الإعلان ونظام الموضة وطقوس الاستهلاك.

المعارف التي يكتنزها العقل يترجمها الجسد سلوكاً ثقافياً يتجسد في كل حركاته وانطباعاته وانفعالاته وطريقة تأثره بمحيطه وتعبيره عن هذا التاثير

حيث أإن السلع الاستهلاكية لها أهمية تتجاوز طابعها النفعي وقيمتها التجارية، وهذه الأهمية تكمن إلى حد كبير في قدرتهم على تحمل المعنى الثقافي وتوصيله.

عليه فإن المعارف التي يكتنزها العقل يترجمها الجسد سلوكاً ثقافياً يتجسد في كل حركاته وانطباعاته وانفعالاته وطريقة تأثره بمحيطه وتعبيره عن هذا التاثير.

الثقافة في بلاد تعيش في قاع المنحنى الحضاري العالمي تختلف عن الثقافة في البلدان المتحضرة وهنا لا أعني بالثقافة حجم الكتب التي قرأها الشخص ولكن عاداته وتقاليده وسلوكه لأن الأولى اسمها معرفة والثانية هي الثقافة، وبهذا المعنى لايصح أن نطلق صفة "مثقف" على الشخص القارئ النهم بل هو متعلم وصاحب مخزون معرفي في دائرة علمية متخصصة سواء أكانت علم الطب أو الهندسة أو التاريخ أو السياسة أو الأدب، وسلوك هذا الشخص القارئ هي الثقافة.

لتقريب الفكرة دعونا نستعير بعض الفهم الطبي، فإن المرء كي يكون صحيحاً بدنياً وفيزيولوجياً فعليه أن يتغذى على وجبات صحية من حليب وبيض وخضار وفواكه وتنوع في اللحوم وبسعرات حرارية يحتاجها جسده (القراءة والمعرفة المفيدة للإنسان) ثم والأهم هو أن يقوم الجسد بالحركة الدائبة أو الحركة المنتظمة كقيامه برياضة معينة حتى يحرق تلك السعرات الحرارية (السلوك الثقافي كحضور المسرح وممارسة رياضة التنس أو الغولف أو كرة القدم وزيارة المتاحف).

في المقلب الآخر لو أن المرء تناول  مأكولات مليئة بالدهون والشحوم ولحوم مبردة سلفاً ومعلبات وأطعمة رديئة (مايسمى بالإنكليزية جنك فوود) فإنه ستشكل في جسده دهون زائدة (المعرفة التي لاتلزم والتي تحمل قيم التناحر والتباغض أو معرفة لاقيمة لها عملياً وتعطي معرفة تتناقض والحس المدني السوي ) والأنكى أن الجسد لايقوم بأية حركة حقيقية كي يحرق هذه السموم التي يحتويها جسده ولا يلتزم بأية رياضة بشكل منتظم كي يتخلص من هذه الدهون (لا يوجد مسارح ولا صالات عروض سينمائية راقية ولا متاحف ولا يستطيع الانضمام لنوادٍ راقية في رياضات كرة السلة أو التزلج على الجليد أو تسلق الجبال أو ممارسة أي سلوك ثقافي) عندها سيكون لدى المرء بدانة معرفية ودهون معرفية زائدة لاقيمة لها سوى إيذاء كل البدن من القلب لآلام الظهر والركب بمعنى آخر سيكون لدى المرء "الكرش المعرفي" أو "السمنة المعرفية".

الإنسان في الدول المتقدمة ينفق الأموال على سلوكه الثقافي التي تقدمها مثلاً صناعة الرياضة بشكل محترف وراق. إن حجم القيمة السوقية مثلاً لسوق الرياضة في العالم وصل إلى 71 مليار دولار، حصة الولايات المتحدة الأميركية منها 32.5 %، حيث حجم مبيعات السلع الرياضية في السوق الأميركية بلغ 45 مليار دولار، ويباع من تلك السلع الرياضية أون لاين 19 مليار دولار.

بطبيعة الحال ينبغي أن يكون دخل الفرد مناسباً حتى يستطيع ممارسة ثقافته الرياضية وبالتالي يستطيع استهلاك والاستمتاع بتلك السلع والخدمات الرياضية التي تكّون ثقافته بحيث أيضاً تكون مربحة للشركات المصنّعة وتشجع الصناعة الرياضية على التطور والاستمرار  بتزويد السوق بطلبات المستلهكين لممارسة ثقافتهم التي يحبونها.

حيث إن عائدات دور النشر الأميركية من طباعة الكتب بلغت 25 مليار دولار باعت خلالها 675 مليون كتاب و 191 مليون كتاب -افتراضي (إي بووك) وهنا تلعب المكتبات الخاصة دوراً مهماً على صعيد السلوك الثقافي في الغرب، فهنالك 4100 مكتبة خاصة ضخمة في الولايات المتحدة الأميركية مثل بوردرز أو بارنز آنذ نوبل فيها مئات ألوف الكتب المعروضة يفوق دخلها الـ 8 مليارات دولار  (صافي مبيعات بارنز آند نوبل نحو 4 مليارات دولار) وفيها على الأغلب مقهى ستاربكس داخله حيث يسمح لك بالاطلاع على ما تشاء من كتب ومجلات وصحافة مطبوعة وأنت تحتسي قهوتك في مقهى ستاربكس حتى بات هنالك "ثقافة ستاربكس" فإن الناس تلتقي كثيراً في تلك المقاهي الراقية وحولهم أجواء المكتبات الرفيعة المستوى، ومن الضروري أن يكون لدى الإنسان إمكانية مادية يستطيع خلالها شراء القهوة ومشروبات أخرى واقتناء حد أدنى من الكتب الرائعة الإخراج، والعناوين الجذابة والمعروضة بمهنية فائقة، وبذلك فإن دخل الفرد سيُمكّنه من ممارسة ثقافته وحرق الدهون المعرفية وبنفس الوقت لاقتناء كتب تزوده بـ "سعرات معرفية " تليق ببدنه السليم معرفياً.

المقاهي الراقية هي ساحة لممارسة ثقافة المجتمع وهي سوق قيمتها تجاوزت 3 مليارات جنيه إسترليني في بريطانيا حيث ينفق البريطانيون أكثر من 61 مليون جنيه إسترليني على تلك الثقافة في 8222 سلسلة مقاهٍ راقية على رأسهم كريكز وكوستا وستاربكس والتي شكلت ثقافة ستاربكس لدى معظم سكان أميركا الشمالية والغرب عموماً حيث يمارس 35.9 مليون بريطاني هذه الثقافة باحتساء القهوة معاً سواء داخل المكتبات الخاصة الضخمة أو خارجها في 1025 مقهى ستاربكس في بريطانيا وكذلك في 2422 مقهى كوستا.

تشكلت ثقافة ستاربكس داخل 32660 مقهى ستاربكس حول العالم (2019) حيث بلغت أصولها 29 مليار دولار ولولا مستوى دخول مرتاديها الذين يمارسون ثقافتهم داخلها لما وصلت عائدات ستاربكس 19 مليار دولار عام 2019، ينفق منها 245 مليون دولار على الترويج لهذه الثقافة في إعلاناته.

بلغت قيمة العلامة التجارية لستاربكس عام 2020 نحو 47.8 مليار دولار أميركي، وهي مثلها مثل ثقافة ماكدونالدز التي تموضعت علامته التجارية على قائمة الأعلى قيمة لعلامة تجارية للوجبات السريعة في العالم حيث تقدر قيمة العلامة التجارية بنحو 129.3 مليار دولار أميركي.

إن ثقافة رياضة الغولف تشكل ساحة لممارسة ثقافة سكان بلاد الدول الصناعية، حيث كانت عائدات رياضة الغولف في ولاية فلوريدا لوحدها 7.5 مليارات دولار، وفي ولاية كاليفورنيا 15 مليار دولار، وتخلق فرص عمل في كاليفورينا لليد العاملة بقيمة أجور مدفوعة لهم بلغت 4.8 مليارات دولار.

يصطدم الإنسان في دول "العقل المستقيل" والفشل الحكومي في الوطن العربي بواقع أن هنالك فرط غذاء معرفي في الوطن العربي حيث إن معظمها معرفة إصلاحية تبريرية تاريخانية وفي الوقت نفسه إما أنه لا يستطيع ممارسة ثقافته أو سلوكه الثقافي بسبب ضيق ذات اليد أو بسبب انخفاض نسبة الحريات العامة، وعندها لا شك أنه يصاب بـ "البدانة المعرفية" والترهل الذهني الذي يؤثر حتى على منطقه في الحياة من جراء اختلاطات المعارف الرديئة (الجنك المعرفي).

إذا كان الإيمان قولاً وعملاً، فالمعرفة هي القول وممارسة السلوك الثقافي هي العمل، وإذا صحّ أنه "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فإنه ليمكن لشعب أن يمارس ثقافته دون حد أدنى من العدل والرشادة الاقتصادية وتوزيع الدخول بشكل يمتلك المرء الدخل الكاف لممارسة الثقافة التي يحب من جهة، وتقوم الحكومة بما تجمعه من ضرائب على تأمين الاحتياجات الثقافية للإنسان من حدائق ومتاحف وبيئة نظيفة وتعليم راق بأدوات تكنولوجية ومدارس بمساحات واسعة تتيح للمرء الاستفادة من فيض المعلومات في العالم من جهة أخرى.

لا يوجد في اللغة الإنكليزية مصطلح "مثقف" فهذا اختراع عربي في زمن الانحطاط الأخلاقي والعلمي

الثقافة حياة وممارسة وسلوك ومتعة، فبينما يستمتع الناس في الدول المتقدمة - حيث تتصالح الحكومة مع الشعب - بسلوكهم الثقافي، أبدعنا في الوطن العربي مصطلح "مثقف" خلافاً لمعنى الثقافة كسلوك، بل ألبسنا مصطلح "مثقف" نكهة "نخبوية" فبتنا نستخدمه بطريقة استعلائية من أجل التصنيف (على الطريقة المخابراتية التصنيفية للبشر) فباتت تهمة شخص أنه "غير مثقف" تعود على صاحب العقل المتعالي على البشر بالرضا لشعوره بأنه متفوق على أقرانه! فهو "مثقف" لأنه قرأ كثيراً عن هيغل وأرسطو ومذكرات تشرشل ومذكرات خالد العظم وروايات نجيب محفوظ مثلاً ببنما الآخر أخفض درجة في سلم المدنية و"العقل" لأنه "غير مثقف"! ولم يدرك صاحب "الكرش المعرفي" والذي قد لا يجعله لا "كاتباً" ولا "سياسياً" ولا "مؤرخاً" ولا"فيلسوفاً" أن "الثقافة" لاتستخدم كصفة لمخزون معرفي بل هي "حياة وممارسة وسلوك ومتعة" وليست أدوات للتمييز بين البشر.

لا يوجد في اللغة الإنكليزية مصطلح "مثقف" فهذا اختراع عربي في زمن الانحطاط الأخلاقي والعلمي، فهنالك شخص "مهنى" كأن يكون مهندساً أو نجاراً أو مزارعاً أو طبيباً أو محاسباً وهو لديه "المهنية" والمعرفة اللازمة لاختصاصه فهو خبير بالخشب أو في علم الأحياء أو علم الزراعة أو في الاقتصاد لكن لا يوجد أحد يلقبه بـ "المثقف"! لأن  هذا خطأ من اختراعنا العربي والصواب أن سلوكه اليومي هو ثقافته حيث إن الثقافة لها بعدها الحركي الذي أمتناه في وطننا بسبب "البدانة المعرفية" والأوزان المعرفية الزائدة التي أخّرت حركتنا وعطلت فهمنا لحركة المجتمعات الحيّة فباتت تلك الأوزان تسبب ألماً في العمود الفقري الحضاري وآلاماً في الركب الحضارية التي لم تعد قادرة على حمل الأوزان المعرفية عديمة الفائدة وتبث سموم الفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

التراكم المعرفي الذي لايولّد سلوكاً ثقافياً هو عالة على المجتمع، ويأتي هنا دور الحكومة اقتصادياً برفع السوية المعاشية للشعب كي يستطيع ممارسة ثقافته الأدبية والفنية والرياضية والعلمية والجسدية والروحية والترفيهية، فهي بذلك تؤمّن مناخاً للسلوك الثقافي السليم، فالثقافة السليمة في الجسد المعرفي السليم، وللأسف فإننا نعيش في أوطاننا "تخمة معرفية وعسر هضم سلوكي"!

كلمات مفتاحية