(الاقتصاد الإسلامي) متشبّعاً بما لم يعطَ

2020.05.29 | 00:03 دمشق

137703.jpg
+A
حجم الخط
-A

أرأيتم إلى طفل ضخم يتخلّع في مشيته يصرّ على النزول إلى مضمار سباق عالمي ليسابق فحول العدّائين، ويقف بجانبهم، ولكن خارج المضمار، ثم يجري معهم عند انطلاق الصافرة! وعندما ينتهي السباق يقف لاهثاً، وقد قطع عدة أمتار، ليتقافز فرحاً متخيّلاً أن الجمهور يصفّق ويهتف له، فيلتفت إليهم ويلوّح لهم بكلتا يديه، ثم يسجد شاكراً لله، وقد امتلأ كيانه افتخاراً وعَظَمة؟! إنه (الاقتصاد الإسلامي) أو بالأحرى دعاته ممن لم يعرف تاريخ الأفكار والدعوات دعاةً مكابرين ومعاندين وواهمين ومنتشين مثلهم! يلبسونه تارة ثوب العلم فيقولون: (علم الاقتصاد الإسلامي)، ثم يكتشفون أنّ الخصوصية الذاتية و(الحيثية المشتركة) بين مسائله المتشتتة التي يطرحونها لتميّزه عمّا سواه لا تنهض به لتجعل منه علماً مستقلاً، فيقولون: لا! هو ليس بعلم، ولكنه مذهب اقتصادي، فيلبسونه ثوب (المذهب الاقتصادي). علماً أنّ قليل التمعّن سيكشف لنا أن كلا هذين الثوبين هما ثوبا زور فضفاضان واسعان يغطيان جسداً أعجف ناحلاً، فيبرزانه عبلاً فِطحلاً.

لماذا (الاقتصاد الإسلامي) ليس علماً؟

لأنّ مبادئه لا تجعله علماً مستقلاً، ولا علماً متمايزاً، ونحن نعلم أنَّ تمايز العلوم، إنّما يكون بتمايز موضوعاتها، أو بتعبير أدق بتمايز ما هو الجامع لمحمولات مسائلها، فبعض العلوم يكون المحمول في جميع مسائله أمراً واحداً، كما في (الفلسفة الأولى) والتي تسمى بـ (الحكمة المتعالية) فإنّ موضوعها واحد هو الموجود بما هو موجود، وبعض العلوم الأخرى يختلف المحمول في مسائله، ولكن توجد بين محمولاته المختلفة جهة جامعة، تشكّل موضوعه، وتحتزن الغاية منه، فموضوع علم النحو مثلاً هو الكلمات وحالات إعرابها وبنائها، والغرض منه صيانة اللسان عن الخطأ، وموضوع المنطق طرق التعريف وطرق الاستدلال، والغاية منه صيانة الفكر عن الخطأ، وهكذا ندرك أن التمييز بين العلوم يكون في الموضوع وفي الغرض. فهل (علم الاقتصاد الإسلامي) متميّز؟ وبعبارة أخرى: هل أعراضه الذاتية متميّزة؟

لقد عرّف الدكتور أحمد صفي الدين عوض علم الاقتصاد الإسلامي بقوله: "هو العلم الذي يبحث في طرق الكسب والنفقة على ضوء الأحكام والآداب التي تضمنتها شريعة الإسلام"، وعرّفه الدكتور عبد الله حمد الجمعان بأنه "مجموعة الأحكام والسياسات الشرعية التي يقوم عليها المال وتصرّف الإنسان فيه بالإنفاق والتنمية"، وعرّفه الدكتور أحمد جابر بدران بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فيما ينظّم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته"، وهذه التعريفات، كما ترون، إعادة تعريف لباب من أبواب الفقه يُدعى باب (المعاملات)! وهذا الباب بأحكامه ومعالجاته لا يرتقي لتأسيس ما يسمى بعلم (الاقتصاد)! وهذا ليس عيباً في هذا (الباب)، ولكنه عيب فيمن يضخّم ما لا يقبل التضخيم، ويلعب على التسميات ويلقيها جزافاً بدون تمحيص ومسؤولية، ولتقريب المسألة أكثر نقول: هل يمكن أن نذهب إلى أحكام الحرب في الإسلام، ثم نؤسّس من خلالها علماً نسميه (علم الحرب الإسلامي)؟ ننافس به مناهج الدراسة الحربية المعتمدة اليوم في الأكاديميات الحربية؟ بل وندعو بكل ثقة وتحدٍّ لنخوض بهذه الحصيلة العلمية وبأدواتها الكلاسيكية حربنا ونزالنا؟

عرّف الدكتور أحمد صفي الدين عوض علم الاقتصاد الإسلامي بقوله: "هو العلم الذي يبحث في طرق الكسب والنفقة على ضوء الأحكام والآداب التي تضمنتها شريعة الإسلام"

إنّ باب المعاملات في كتب الفقه، وكذلك جميع النصوص الواردة في الكتاب الكريم والسنة المطهّرة حول المال وطريقة التعامل معه لا تنتج علماً يفسّر الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها ويربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها، وهذا ما ندعوه (علم الاقتصاد) وهو اليوم زنبيلٌ تجتمع فيه عدة علوم وعدة فروع محددة منها، فهو مزيج من الرياضيات والإحصاء، والدراسات الكمّية، ودراسات الجدوى ودراسات التسويق القائمة على علوم النفس والاجتماع إلخ، وعندما نقول: (علم اقتصاد إسلامي) فهذا يعني أن أجزاءه يجب أن تكون إسلامية، فهل هناك إحصاء إسلامي، ورياضيات إسلامية، وعلم اجتماع إسلامي، ولوغاريتمات وخوارزميات إسلامية تتميّز عن الإحصاء والرياضيات واللوغاريتمات والخوارزميات التي يعرفها ويستخدمها البشر؟

لقد أدرك محمد باقر الصدر هذه المسألة فقال إن (الاقتصاد الإسلامي) ليس بعلم، ولكنه مذهب، فـ "حين نطلق كلمة (الاقتصاد الإسلامي) لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرةً، لأنّ هذا العلم حديث الولادة نسبياً، وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي للإسلام الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية، بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري يتألف من أفكار الإسلام الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية".

وما لم ينتبه له الصدر ورفقاؤه من دعاة الاقتصاد الإسلامي، أو بالأحرى ما لا يعترفون به هو أنّه ما كان لهذا (المذهب الاقتصادي الإسلامي) ــ رغم بدائية شكله ومضمونه ــ أن يستقيم الحديث عنه لولا أنّهم استعانوا بشكل أساسي وجوهري بمقولات علم الاقتصاد العامة التي لم يرد أي مفردة من مفرداتها لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الفقهاء، وأنّه لولا الرؤيتان الاقتصاديتان الليبرالية والماركسية، ولغة الحداثة الغربية لما خطر في بال هؤلاء الدعاة وجود مذهب اقتصادي في الإسلام.

إنّ الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي الإسلامي يتألف من أفكار الإسلام الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية

أما أفكار الإسلام وتوجيهاته الأخلاقية فهي مبثوثة في كل المنظومات الدينية والعلمانية على حدّ سواء، والفرق الوحيد بينهما هو أن الفئة الغالبة والعظمى من منظّري الاقتصاد الإسلامي لا يفرّقون بين (الفائدة) و(الربا)، في حين أنّها تلقى تفريقاً معقولاً ومقبولاً لدى الآخرين. وهذه مسألة سوف نفرد لها مقالاً مستقلاً.

وأما أفكار الإسلام العلمية الاقتصادية أو التاريخية فتقع ضمن تاريخ تطور الرؤية الاقتصادية في المرحلة الأولى من مراحله وتسمى بـ (المرحلة البدائية)، وهذه المرحلة تستغرق الحضارات القديمة الصينية والهندية والفارسية واليونانية والإغريقية والعربية حتى نهاية القرون الوسطى، ثم تبدأ (المرحلة الكلاسيكية) التي افتتحها في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر آدم سميث (1723ــ1770 )، وديفيد ريكاردو (1772ــ1823 )، وتوماس مالتوس (1766ــ1834 )، وجون ستيوارت ميل (1806ــ1873 )، وفي تلك الفترة ظهر الاقتصاديون الاشتراكيون المعارضون للرؤية الكلاسيكية ذات الطابع الليبرالي، وكان على رأسهم: سان سيمون (1760ــ1823 )، وروبرت أوين (1771ــ1858)، وشارل فوريي (1772ــ1837 )، وكارل ماركس (1818ــ1883 )، ثمّ تطور الفكر الاقتصادي إلى مرحلة أعلى دعيت بمرحلة (الاقتصاد الكلاسيكي الجديد/ نيو كلاسيكي) تبعاً لما تضمنته الثورة الصناعية من تغييرات، وكان من أهم رواد هذه المرحلة: ستانلي جيفون (1835ــ1882 )، وليون وَالرَاس (1834ــ1910 )، وكارل مانجر (1849ــ1921 )، وألفريد مارشال (1842ــ1924 )، وجون ماينور كينز (1883ــ1946 )، وأخيراً نحن اليوم في (المرحلة المعاصرة)، ومن أهم رجالها: ثورستين فلبن (1857ــ1928 )، وجون كينث غالبريث (1908ــ2006)، وميلتون فريدمان (1912ــ2006 )، إلخ.

إن دعاة (الاقتصاد الإسلامي) اليوم يريدون، من دون أن يلحظوا تطور الظواهر الاقتصادية وتطور نظرياتها، أن يناطحوا ويتحدوا بفكرهم الاقتصادي الذي انطلق من مرحلة الإقطاع في صورته البدائية، آخر ما توصل له هذا الفكر في مراحله المتعاقبة، ويتسلّح هؤلاء الدعاة بمحمد بن الحسن الشيباني (131هـ/750م ــ 189 هـ/805م)، أو بابن خلدون (732 هـ/1332م ــ 808 هـ/1406)، أو بالمقريزي (746 هـ/ 1364م ــ 845 هـ/1442م)، ولا يدركون أنهم يرمون بضعة أشخاص مهما كانوا من ذوي الاقتدار والقوة في مواجهة جيش عرمرم لا يقل أي فرد منه عن هؤلاء الأفراد قوةً وحصافة رأي، علماً أنّ أعلامنا هؤلاء لو كانوا أحياء فربما لن يضعوا أنفسهم في حالة تحدٍّ ومواجهة، بل في حالة توافق وتكامل، ويتدرّع هؤلاء الدعاة كذلك بمقولات خصائص التشريع الإسلامي القائمة على الشمول والمرونة والتوازن بين المصالح العامة والخاصة والمثالية والواقعية واليسر ورفع الحرج إلخ، لكنّ هذه المقولات نفسها هي التي تجعل (الاقتصاد الإسلامي) بدون ماهية، وبؤرة للآراء المتناقضة حين يقبل الشيء ونقيضه بحسب وجهة نظر أحد أتباعه هنا، وأحد أتباعه هناك! أراء متناقضة لا يمكن التوفيق بينها بأي شكل من الأشكال، والأمثلة كثيرة وفيرة، كالخلاف حول توسيع ملكية الحكومة والتخطيط المركزي، أو تقليصها واعتماد الملكية الخاصة وآليات السوق، فكل فئة تدعم وجهة نظرها باستئناسات من الكتاب والسنة وتفرضها أدلةً قطعية فتضع مرة الاشتراكية جنباً إلى جنب مع الإسلامية، ومرة أخرى الرأسمالية بدل الاشتراكية، في حين تقوم فئة أخرى بوضع الرأسمالية والاشتراكية في الخلاّط وتضربهما، وتخرج علينا بعصير إسلامي يدّعي عاصروه أنه يجمع بين نقاط القوة بينهما، ويتغلب على نقاط ضعفهما! خلافات حول كل شيء: حول نظام الضريبة التصاعدي، والأرباح، والأجور، وقوانين العمل، وإستراتيجيات التنمية! حول تسديد الديون في ظل التضخم: هل نربطه بمؤشر التضخم أم لا؟

لقد كانت دعوى (الاقتصاد الإسلامي) منذ انطلاقها وسيلة تأكيد للهوية، ولم تكن مبعثاً ولا وسيلةً للتنمية، وبحسب الدراسة التفصيلية المستقصية التي أجراها الباحث تيمور كوران في كتابه "الإسلام والثراء الفاحش" فإنّ الباكستان أكثر بلد إسلامي راعى ضوابط (الاقتصاد الإسلامي)، ولكنه لم يستفد شيئاً، ويرُجع السبب في ذلك إلى وجود نقاط غامضة في هذا الاقتصاد تتيح للقوى السياسية المهيمنة تفسيرها بالطريقة التي تخدم مصالحها.

وخلاصة ما أريد قوله هنا: على دعاة (الاقتصاد الإسلامي) أن يبحثوا عن وسائل تأكيد الهوية خارج إطار عمليات التجميل والتزويق والادعاء! يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "المتشبّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَي زور".

كلمات مفتاحية