الاعتقالات ليست أسلوبا تأديبيا

2022.06.11 | 04:31 دمشق

atqalat.jpg
+A
حجم الخط
-A

تشرّع مختلف الدول إجراءات عقابية للحد من المخالفات بحق القوانين والأعراف المتداولة في مجتمعاتها، وتختلف هذه الإجراءات تبعاً لمدى المخالفة أو الانتهاك بحق تلك القوانين والأعراف، لكن ثمة اختلافات بخصوص التعامل مع أصحاب الآراء السياسية المعارضة، فالدول الديمقراطية، ورغم تفاوت الحريات فيها، لكنها بالعموم لا تجرّم أصحاب الرأي السياسي المخالف، أما الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية، فتعد هذه الآراء أشنع الجرائم، وبالتالي لا بد من تعامل خاص مع أصحابها، تعامل يتدرج من الاعتقال المؤقت وصولاً إلى التبخير بلغة جورج أورويل.

بالطبع، تندرج سوريا الأسدية ضمن الفئة الثانية: الأنظمة القمعية، بل الأشد فتكاً وقمعاً بين الأنظمة الشبيهة بها على مستوى العالم. فتاريخها القريب يقول إنه لم يمضِ يوم واحد منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة حتى اليوم، لا يوجد فيه معتقلو رأي في الفروع الأمنية أو السجون أو الأجنحة المخصصة لهم في السجون العادية. في مرحلة الثمانينيات، برزت مشكلة الاعتقال بحيث كادت أن تصبح مشكلة عامة في سوريا، إذ توسعت مروحة الاعتقالات وطالت مختلف التيارات السياسية (يمين ويسار وأي تسمية لا تروق للأخ الكبير).

بعد جولات من التعذيب المبرح، أمامك خياران: إما أن تصبح عميلاً تشي بأصدقائك لفروع الأمن، أو أن تقضي عدداً مفتوحاً من السنين في السجن

لتصوير مشكلة الاعتقالات في سوريا، دعونا نتخيل للحظة، أنك طالب جامعي تزور صديقاً لك، وأنت تعرف أن لهذا الصديق اهتمامات سياسية، لكن لا تعرف أي شيء عن أنه منتمٍ إلى أحد التنظيمات التي يصنفها نظام الأسد "خطرة"، ونتيجة لعلاقة الصداقة وأحاديث الشباب، يعرض عليك قراءة منشور أو جريدة لحزبه، تلتقطها وتضعها في جيبك، أو تحت زنار بنطالك،  وعند خروجك، يصادفك حاجزاً أمنياً لم يكن موجودا عندما أتيت، حاجزاً طياراً كما هو معروف بين السوريين، يطلب هويتك ويفتشك، يجد ذلك المنشور أو الجريدة، تُحشَر في (باكاج) السيارة، وهي من نوع (بيجو) توصلك لأحد الفروع الأمنية، وبعد جولات من التعذيب المبرح، أمامك خياران: إما أن تصبح عميلاً تشي بأصدقائك لفروع الأمن، أو أن تقضي عدداً مفتوحاً من السنين في السجن.

هذا ليس خيالاً، ولكن فقط لتوضيح إحدى آليات الاعتقال في سوريا الأسدية، هذا ما كان يحدث في ثمانينيات القرن الماضي، وما زال يحدث، لكن اليوم، وأقصد بعد الثورة السورية، اكتسب محددات جديدة، وأولها، لم يعد مهماً وجود منشور أو جريدة معك، فالورقيات أصبحت من الماضي، إذ استبدلت بحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي غدا تفتيش أجهزة (الموبايل) الذكية والغبية منها وسيلة للاعتقال، وكذلك أجهزة الحاسب، وثانيها، ما هو مسجل ببطاقة الهوية: أمانة السجل المدني، حيث صارت الجغرافيا ومكان المولد إحدى التهم المسببة للاعتقال، اعتماداً على تصنيف "الدوائر المختصة" للمناطق على أنها موالية أو معارضة.

في الثمانينيات، كانت الاعتقالات بغرض التكديس، وترك الزمن ليفعل فعله في نفسية المعتقل ومحيطه الاجتماعي، وخاصة لمعتقلي التيارات اليسارية ولهؤلاء الذين لم يكن لهم أي تهمة سوى أنهم ألقوا التحية على شخص مطلوب، أو استضافوه ذات يوم في منزلهم، أو قدموا له وجبة، أما معتقلو التيار الإسلامي سواء كان مسلحاً أم لا، فالتعذيب والقانون (49) يتكفلان بمصيره.

اليوم، الاعتقالات بمعظمها بهدف القتل، فقد عمم النظام الأسدي تجربة سجن تدمر الفظيعة في الثمانينيات على كامل أماكن الاحتجاز من مفارز وحواجز وميليشيات، وبالطبع على فروع المخابرات، ولربما لهذا السبب لا يكشف النظام، ولن يكشف عن العدد الفعلي للمعتقلين، كما أنه لن يفرج عنهم أو يكشف مصيرهم، وسيبقيهم طالما هو موجود، ببساطة، فالكشف عن العدد أو ما تبقى منهم، سيشكل أكبر فضيحة وجريمة في تاريخه، جريمة تفوق كل المجازر وعمليات القتل التي ارتكبها، فالمعتقلون، كما المدنيون الذين قصف بيوتهم، عزل، لا يملكون سوى صرخاتهم في وجه آلة القتل.

تلخص بكثافة مشكلة الاعتقال مشكلة سوريا كاملة، فجوهر المشكلة تقوم على طبيعة النظام الذي لا يمكنه قبول مجرد رأي مخالف، هذا النظام الذي التهم المجتمع عبر تحويله إلى مجتمع من الخاضعين، وخلق صورة لدى الجمهور، وخاصة جمهوره، أنه النظام الذي لن يجود الزمان بمثله، ولن يخلق الله زعيماً كقائده، وبالتالي، فعبادته أمر واجب، وهو الأمر الذي شهدناه في مراكز التعذيب حيث يُجبَر المعتقلون على الركوع لصورة "القائد المعبود"، وبالوقت نفسه جعل من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل تصور وجود أناس من لحم ودم يثورون ضد هذا "الملهم".

 لا ينفع سوريا والسوريين أي نقاش طالما هناك مخابرات تتحكم بتفاصيل الحياة اليومية للبشر

على ضوء ذلك، كان من الأجدى على المعارضة السورية "الرسمية" أن تصر على وضع قضية الخلاص من الاعتقالات والإفراج عن المعتقلين ومحاسبة آمري الاعتقال والتعذيب كقضية أولى كونها تمتلك زخماً شعبيا كبيراً، وأيضاً رأسمالاً رمزياً تكسبها عنصر قوة في التفاوض بدلاً من الخوض في متاهة الدستور وتفاصيله، الذي يدرك النظام كيفية إغراقهم بتفاصيل لا معنى لها، غايتها كسب الوقت واستنزاف الطاقات نحو مزيد من البؤس.

 لا ينفع سوريا والسوريين أي نقاش طالما هناك مخابرات تتحكم بتفاصيل الحياة اليومية للبشر، فهي حاذقة جداً في صياغة الدساتير وتغييرها كلما اقتضت الحاجة. ففي البلاد التي تغدو فيها الاعتقالات ليست وسيلة تأديبية، بل نهجاً إبادياً غايته تكريس الخضوع وخلق فئة من العبيد بين الناس، وإدامة سلطة "الملهم" إلى ما شاء الله، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشارك الآخرين أو تتخلى عن السلطة، وبالتالي، فالمهمة الأولى تفكيك سلطتها ووضعها في المكان المناسب لها كمقدمة لا بد منها نحو التغيير الديمقراطي.