الاحتجاج.. حين لا تحتمله نظُمٌ عربية مستبدّة

2021.09.25 | 06:38 دمشق

thumbs_b_c_967286133780e68234dc4a3ec44164e5.jpg
+A
حجم الخط
-A

نشطت حالات الاحتجاج حول العالم، على خلفيَّات مختلفة، منها عامَّة، أو شبه عامَّة، معيشية، كاحتجاجات حركة السُّترات الصُّفْر في فرنسا، والتي خرجت، في البداية، للتنديد بارتفاع أسعار الوقود، وارتفاع تكاليف المعيشة، ثم امتدَّت مطالِبُها؛ لتشمل إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنَّتها الحكومة، والتي ترى الحركة أنّها تستنزفُ الطبقتين العاملة والمتوسِّطة، فيما تُقوّي الطبقة الغنيّة. ودعت الحركة، منذ البداية، إلى تخفيض قيمةِ الضرائب على الوقود، ورفع الحدِّ الأدنى للأجور، ثم تطوّرت الأمور، فيما بعد، لتصل إلى حدِّ المناداة باستقالة رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون.

كما وشهدت المدن الإسبانية، مؤخَّرًا، العديد من المظاهرات ضدَّ شركات إنتاج الكهرباء، خلال الصيف الجاري؛ احتجاجًا على ارتفاع فاتورة الكهرباء، حيث ارتفعت فواتير الكهرباء إلى الضعف، في بعض دول الاتحاد الأوروبية، ومن المتوقَّع أن يتمدَّد الغضب الشعبي إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وباقي دول الاتحاد الأوروبي، خلال الشهور المقبلة، مع توقُّعات خبراء حدوث مزيد من الارتفاع في فواتير الكهرباء، وسط ضغوط الدخول.

ومنها احتجاجات أقلُّ عمومًا، في مطالبها، كما على الاحتباس الحراري، مثلًا، إذ شهدنا مؤخَّرًا، نزولَ آلاف الصرب إلى شوارع بلغراد؛ للاحتجاج على المخطَّط لمنجم كبير لليثيوم، وللدعوة إلى ضوابط بيئية أكثر صرامة، حيث لمس المحتجُّون تنازُلَ البعض عن اللافتات التي تقول: إنَّ "طبيعة صربيا ليست للبيع"، ونظَّم المسيرة نحو 30 جماعة بيئية تنامَى نفوذُها، وسط مخاوف واسعة النطاق من تفاقُم التلوُّث.

كذلك شهدت دول، وخصوصًا في الغرب، احتجاجاتٍ على إلزامية التطعيم ضدَّ وباء كورونا.

مفهوم الاحتجاج:

الاحتجاج هو شكل من أشكال العمل الفردي، أو الجماعي، الذي يهدف إلى التعبير عن الأفكار والآراء، أو قيم المعارضة، أو التنديد، أو التبرير. وتشمل التعبير عن وجهات النظر السياسية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، وتكون نقدًا موجَّهًا إلى جماعة، أو حزب، أو إلى الحكومة نفسها؛ ردةَ فعلٍ على سياسة ما، أو للتنديد بمشكلة عامة؛ وتأتي الاحتجاجات على شكل مظاهرات، أو إضرابات، أو على شكل حملات إلكترونية. وهي تعبير عن أحقيّة الشعب، والجماعات والأفراد، بالمشاركة في صُنْع القرار، أو توجيهه.

ويتطلَّب الاحتجاج إنشاءَ أُطُرٍ قانونية تنظِّمه؛ لكي لا يغدو مجرَّد عنفٍ، أو فوضى، ولكي لا تستغلّ الدولة، أو الحكومة النصوص القانونية العامَّة، لمنعه، أو للحدِّ منه، أو التحكُّم به، وتوظيفه لصالحها، فقط. كما يحصل تحت إطار إعلان حالة الطوارئ التي تعلنها الحكومات؛ ذريعةً لمنع الاحتجاج. فـ"المحاكم العُليا الوطنية والدولية اعتبرت أنه لا ينبغي تفسير الحق في التجمُّع السِّلْمي، وغير المسلَّح، بشكل ضيِّق؛ لأنه يشكِّل عنصرًا أساسيًا من عناصر الديمقراطية".

وفي التقرير السنوي لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، وتقريري المفوضية والأمين العام، وفي موجز حلقة نقاش مجلس حقوق الإنسان بشأن تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في سياق الاحتجاجات السلمية أعدَّته مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 19 ديسمبر/ 2011،" شدَّد السيد ماينا كياي (المقرِّر الخاص المعني بالحق في حرية التجمُّع السلمي، وفي تكوين الجمعيات) على أنَّ الاحتجاج، بشكل سِلْمي، يستتبع التمتُّع بالحقِّ في حرية التجمُّع السلمي، والتعبير وتكوين الجمعيات، في جملة حقوق أخرى، وممارسة هذه الحقوق. وأوضح أنَّ هذه الحقوق مضمونة، بموجب القانون الدولي والإقليمي لحقوق الإنسان، وهي تيسِّر التمتُّع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي الواقع تقع على عاتق الدول ثلاثة التزامات: (أ) الإحجام عن ارتكاب الانتهاكات، بما في ذلك الاستعمال المفرط للقوة ضدَّ أفراد يمارسون حقَّهم في التجمُّع السلمي والتعبير وتكوين الجمعيات؛ (ب) حماية الأفراد الذين يمارسون هذه الحقوق من التجاوزات التي ترتكبها الجهات الفاعلة من غير الدول؛ (ج) إحقاق هذه الحقوق؛ باتخاذ تدابير إيجابية؛ لمنع أيِّ انتهاكات، وكفالة تمكِّن الجميع من ممارسة هذه الحقوق بحرية وفعالية.

 ولم تغفل الأطُرُ القانونية الدولية تحديدَ تدابيرَ تفصيلية تكفل سدّ الذرائع أمام الحكومات المستبدّة، كما التذرُّع بالعنف الممكن وقوعُه في الاحتجاجات السلمية؛ لتبرير منع الاحتجاج كليًّا. إذ جاء في التقرير الآنف ذكرُه أنه "عندما تحدث الانتهاكات تكون الدولة ملزمة بإجراء تحقيق شامل في هذه الأفعال، وتوفير سبُل انتصافٍ فعّال للضحايا. وأضاف أنَّ هذين الالتزامين، بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، يبقيان ساريَيْن عند نشوب النزاعات المسلَّحة، إلى جانب القانون الإنساني الدولي. ويجب تطبيقهما على نحو مماثل في حالات الاضطرابات والتوتُّرات الداخلية التي لا ترقى إلى مستوى النزاع المسلَّح".

ولكن ينهض السؤال عن الضامن لوفاء الدولة بهذا الحق في الاحتجاج، وفي الامتناع عن استخدام الذرائع، أو اختلاقها لمنعه. والضمانة لذلك داخلية في الأساس، ويعتمد ذلك على قوَّة الرأي العام، ومؤسسات المجتمع المدني، والصحافة والأحزاب السياسية، والنُّخُب الثقافية. وهذا يتطلَّب وجودَ حياة سياسية، ومجتمعًا مدنيًّا، من الأساس، والحق في حرية التجمُّع السلمي، وتكوين الجمعيات والأحزاب والحشد والتعبئة، دون أن تكون تلك الأجسام السياسية صدى للحزب الحاكم، أو للطبقة الحاكمة.

 وحين يعزم نظامٌ سياسيٌّ، أو سلطة حاكمة على الزهد برأي الشعب، والاستخفاف به، لا يكون ذلك إلا وهو يجد (وَفْق اعتقاده) بديلًا عن مساندة الشعب، وهو السَّنَد الطبيعي الذاتي، وحينها يكون قد قرَّر المُضِيَّ في العِداء لشعبه إلى النهاية. مثال ذلك السلطة الفلسطينية، في قمعها للاحتجاجات على القتل خارج القانون، ومِن قبلها كثير من النُّظُم العربية، السيسي في مذبحة رابعة، الأسد في قمع الثورة السورية، بأقسى الأساليب تدميرًا للشعب، والبلد، القذّافي في سؤاله الاستنكاري الشهير الذي وجَّهه لليبيين المطالبين بخلعه: "مَنْ أنتم؟"

ويُفترَض أن تكون مؤسسات الدولة، (وتحديدًا البرلمان بوصفه السلطة الممثِّلة للشعب، وَفْق نظامٍ انتخابيٍّ تمثيلي)، قادرة على تلبية مطالب الشعب، لكن يَحْدُث أنْ يعجز البرلمان، أو يضعف عن اجتراح تلك التغييرات المطلوبة، ويضعف الجهاز القضائي عن أن يكون مستقلًّا؛ فينهض الاحتجاج الشعبي بوصفه عنفًا مقابل عنف الدولة الذي يُفترَض أنها التي تملك الحقَّ الحصري في استخدامه.  

تحوُّل الاحتجاج إلى عنف:

وعندما تعجز الدولة، عن استيعاب الاحتجاجات السلمية المطالبة بتغييرات مهمة وحيوية، لا يمكن تجاوزها، أو تهميشها، فإنَّ الاحتجاج معرَّضٌ لأنْ يتحوَّل إلى عنف. وذلك يكون علامةً على تراجُعٍ خطير بثقة الشعب، أو المحتجِّين منه، بقدرة الدولة، عبْرَ أجهزتها الرسمية على تحقيق المطالب، أو حتى حمايتهم من الاضطهاد والقمع. إذ "مِن نافل القول أنَّ " المتطرِّفين" ليسوا وحدهم مَن ينادي اليوم بتمجيد العنف، بعد أن اكتشفوا أنَّ " العنف وحدَه يفيد". [في العنف: حنة آرنت]. فبعد أشهر، من الاحتجاجات السورية السلمية التي كانت مطالبُها الإصلاحَ والحرية، انزاحت الثورة، مضطرةً، إلى العنف مقابل العنف المفرط والتدميري الذي مارسه النظام. وكان لجوء النظام إلى العنف المفرط وسيلةَ استدراجٍ إلى دائرة العنف، لتغدو الحالة الثورية الشعبية، وكأنها حربٌ أهليَّة، أو تآمُرٌ خارجيٌّ على الوطن.

وفي تقرير الأمم المتحدة السابق،" وردًّا على سؤال بشأن الاحتجاجات السلمية التي تصبح غير سلمية، شدَّد السيد مياي على الواجب الأساسي للدولة المتمثِّل في توفير الأمن، والتأكُّد من عدم تحوُّل الاحتجاجات إلى العنف. غير أنَّ هذا الواجب الأسمى يجب ألا يُستعمَل ضدَّ المحتجين. وينبغي إيقاف العناصر العنيفة والتعامُل معها وفقًا للقانون الجنائي". "وفيما يتعلَّق بالتمييز بين التجمُّعات السلمية وغير السلمية، قال السيد مايكل هاملتون (أمين فريق الخبراء المَعْني بحرية التجمع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا/ مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان): إنَّ الأفراد لا يفقدون حقَّهم في حرية التجمُّع السلمي، فقط؛ لأنَّ أشخاصًا آخرين في المظاهرة نفسها قد يختارون المشاركة في أنشطة عنيفة. ويصبح دور القوَّات المكلَّفة بإنفاذ القوانين هو التمييز بين مَن يتصرَّفون بطريقة سلمية، ومَن يشاركون في أعمال عنف."

وهنا تظهر حِيَلُ النظام العربي المستبدّ، وأساليبه الهادفة إلى المغالطة والتشغيب على هذا الحقِّ الطبيعي في الاحتجاج السِّلْمي، فمِن تلك القبائح الشنيعة أنْ يدفع بأنصاره، وحتى بعناصره الأمنية (بلباس مدنيّ) إلى احتجاجات مضادَّة، (وكأنَّه لا يكفيه ما يملك مِن أجهزة أمنية وقمعية رسمية)، وقد عُرفوا بالبلطجية، كما في مصر، أو بالشَّبِّيحة، كما في سوريا. حتى بلغت الطرافة في زعيمٍ عربيٍّ مستبدّ أنْ يخرج بنفسه للاحتجاج على الأوضاع التي تسبَّب بها، كما في قرار معمَّر القذافي التضامن مع الشعب الليبي، والنزول إلى التظاهرة، والمشاركة فيها للمطالبة بإسقاط الحكومة، وذلك بعد أن أعلن ناشطون سياسيون مناوِئون لحكم القذافي، يوم 17 فبراير، عام 2011، يومًا للغضب الشعبي، على أن يسيّروا تظاهرة كبرى تطالب بإسقاط الحكومة. وكما تحايل الرئيس اليمني الراحل والمخلوع، علي عبد صالح، على الشعب اليمني، بحيلة مكشوفة، حين أعلن في يوليو 2005، أنه لن يرشِّح نفسه لفترة رئاسية أخرى، وأعاد الخطاب نفسَه غيرَ مرَّة. ولكن في مقابلة مع بي بي سي في 24 يونيو 2006، أعلن أنه سيرشِّح نفسه للانتخابات؛ لأنها إرادة الشعب. تلك الحالة الطريفة، والمؤلمة معًا، عبَّر عنها نزار قباني، حين قال:" كلّما فكّرتُ أن أعتزلَ السُّلطةَ/ ينهاني ضميري".

الاحتجاج المثمر:

لا يخفى أنَّ الاحتجاج متفاوت القوة، من حيث الحجم والامتداد المكاني والزماني، ومن حيث عبوره إلى الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

والتحدي الذي يواجه الاحتجاج حتى يثمر عربيًّا، هو أنْ يقوى على الصمود أمام قوى الدولة ووسائلها التي ليس بالضرورة أن تكون قانونية. يقوى على الصمود ثم التغلُّب. فالدولة عندنا تحتكر العنف، لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الاحتكار قانونيًّا، بخلاف الدولة في المنظومة الغربية عمومًا، إذ حتى لو تلاعب سياسيُّوها فإنها محكومة بالدستور والقانون، فعلًا. تلك الحقيقة البيِّنة التي يصل إليها في نتيجته" التقرير الرسمي حول العنف في أميركا"، حيث يقول:" إنَّ القوة والعنف يمكنهما أنْ يكونا تقنيَّاتٍ ناجحةً للضغط وللمطالب الاجتماعية، في جميع الحالات التي تتمتَّع فيها تلك المطالب بدعمٍ شعبيٍّ عريض". [في العنف]

لكن في البلاد العربية، حيث بنية النظام الأمنية، وحيث الترابط بين أصحاب المصالح والنظام السياسي، وحيث الاستناد إلى قوى خارجية، فإنَّ فاعلية الالتفاف الشعبي (غير المُوَجَّه، أو المنضبط بقيادة سياسية موحَّدة) قد يكون مشكَّكًا في جدواها. حين يخلو هذا الاحتجاج من غاية سياسية مبلورة خلوًّا تامًّا، أو تضعف الرؤية، ولا تكون موحَّدة، أو حين تكون متفقة، لكن اتفاقها سلبي، أيْ أنَّ المحتجِّين يتفقون على ضرورة التخلُّص من الطبقة الحاكمة، لكن دون أن يستندوا إلى أيّ آليَّات للوصول إلى قواسم مشتركة للبناء عليها، بعد النجاح المأمول في الإطاحة بالنظام، أو بالحاكم. وهنا تتجلّى الثورة في مصر شاهدًا على انفلات الوسائل عن المآلات، بل انقلاب المآلات ضدَّ المطالب والاحتجاجات.

الاحتجاج والربيع العربي:

كان الربيع العربي ردَّة فعلٍ على ما تمَّ الاصطلاح عليه، بالعنف البنيوي، وهو "يشير على وجه الخصوص إلى الهيكليَّات التي تحفظ سيطرة مجموعة، تقع في مركز القوة، على مجموعة أخرى، عادة ما تمثِّل الأغلبية، وتقع عند الأطراف، بالنسبة إلى هذه الأخيرة، يمكن للعنف البنيوي أن يتمظهر من خلال الأجور الضئيلة والأُمِّيَّة والتدهور الصحِّي، وقلَّة الحقوق القانونية والسياسية، والسيطرة المحدودة جدًّا على حيواتها. وإذا قاومت، أو حاولت تغيير الشروط البائسة؛ بواسطة العمل المباشر، فإنها تصطدم بالعنف المباشر". " [المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية: مارتن غريفيش، تيري أوكالاهان].

وهذا العنف البنيوي المتمثِّل في سلطات راسخة، عبْر عقود، نجحت في بناء دوائر حماية داخلية نفعية وخارجية، يتطلَّب التغلُّبُ عليه أكثر من احتجاجات غاضبة، إنه يتطلَّب بناء أحزاب سياسية قادرة على الارتقاء إلى صفة النموذج البديل، وفق رؤية مشتركة تتحاشى الخلافات الجزئية، إلى قواسم مشتركة ليست نقيضة لطراز الحكم المُحْتَّج عليه، فقط، ولكن بمعالجات تلامس هموم الناس الحقيقية ومصالحهم الحيوية.