الإنسان السوري الممزّق وأسطورة البطل الشعبي

2023.04.05 | 06:11 دمشق

الإنسان السوري الممزّق وأسطورة البطل الشعبي
+A
حجم الخط
-A

لطالما كشفت الدراما الرمضانية السورية الأثر السياسي على صناعة "الترفيه العبثي" الممنهج، إن جاز التعبير، خاصة أنّ النظام السوري يستثمرها بخبثٍ صريح لترسيخ الأحوال السائدة وامتداحها بلا مساءلة. بالتأكيد ثمة معضلة لغوية ونقدية يواجهها السوريون حين الحديث عن مسلسل "إشكالي" ما، بينما اجترار المادة الفنية يلبّي سلوى مخدّرة، وهي نوع مرضٍ من الفنون التي يبحث عنها "الإنسان الممزّق"، تحقق إثارة مُشبِعة مقابل تفريغ آمن ومحايد. وفي الحقيقة تُمرَّر بعض المسلسلات كمشاريع موجهة لتسويق البروباغندا السياسية السلطوية ضمن ما يُسمى "تقنيات إنتاج الطاعة". وإن كان الفن في أحد أوجهه الكلاسيكية مرآة للواقع، فالدراما السورية في غالبيتها إنتاج لأبشع ما عاشته البلاد في السنوات الأخيرة، وترسيخ لآلة القهر والعنف التي زادت الأرواح تشرذماً وبؤساً. في المقابل ما يثير الدهشة حقاً الانجذاب الجماهيري إليها، خاصة أنّ هذه المسلسلات لا تقدّم "مُتخيلاً" إبداعياً، فكرياً أو ترفيهياً، لواقع مبالغ في عنفه وألمه، بل تنقل ما يختبره السوريون "حقيقة" من دون أن تطرح حلولاً أو طرقاً ناجعة للخلاص!.

فعلياً تعزّز تمزّق الإنسان السوري عبر هضمِ الواقع المأزوم مرتين. مرة في التفاصيل اليومية المعاشة ومرة أخرى في متابعة المسلسلات التي تشكل "صدمة بصرية" موجهة بعناية لتصيب عصب الحياة بمقتل. بطبيعة الحال يواجه السوريون (أردأ) أنواع الفنون العبثية، تلك التي تعيد تدوير مشاهد كارثية يمكن مشاهدتها في كلّ مكان، ولا سبيل للهرب أو النجاة. هكذا لم يكتفِ السوريّ بحالة التمزق الضمنية، بل تحوّل تدريجياً إلى كائن رغبوي متفاعل مع حيوات مجتمعه من علاقات لا أخلاقية تُعرض كبضاعة رائجة على الشاشة الفضية.

مسلسلات "التنفيس الانفعالي الوجداني" تُستخدم اليوم لفهم دراما الفساد والتشبيح السورية

والحقيقة لم تعد الدلالة الاستجابية تُعنى بالتنفيس عن المواطن الذي خرج من حربٍ طاحنة، أشبه بكوم لحمٍ متآكل، بلا مشاعر أو أعصاب، بلا آمال أو أحلام، ولا حتى بإفراغ شحنة الغضب عبر "الحدوتات" التي تعكس فساد النظام ودمويته، بل باتت تُعنى بخلق "المتعة المفترسة"، وترسيخ نزعة قهر ضمنية تشير إلى أنّ قدر الشعب السوري أن يكون متماهياً مع العنف الذي يشكل جزءاً عضوياً منه. والأسوأ أنّ مسلسلات "التنفيس الانفعالي الوجداني" تُستخدم اليوم لفهم دراما الفساد والتشبيح السورية، حيث تستعرض أيديولوجيا العنف والقهر والإذلال، وترسم متخيلاً "فضائياً" عن علاقة السلطة المستبدة مع مواطنيها وكيفية التعامل مع المواقف المختلفة، والأهم تشير إلى تقنيات "التكيّف" مع الوضع القائم.

أستطرد، وبكثير من اليقين، أنّ خطورة هذه الإنتاجات التلفزيونية خاصة ما بعد الحرب المدمرة، يكمن في تحولها إلى مُتعة قهرية، وكلّ ذلك في سبيل الالتفاف على الأسئلة السياسة الراهنة الحارقة، أيضاً تصوير الانتفاضة السورية على أنها سبب المشكلات كلها. على التوازي يحتاج "الإنسان الممزّق" إلى ساحةٍ آمنة للهرب من الواقع المأزوم، وربما تكون الحكايات الشعبية التي تضم أبطالاً يأتون بالخوارق في البسالة وقتال الأعداء، -وهي خوارق، بالطبع، لا تقف عند نجاة البطل من القتل بل تمتد إلى نجاتهم معه-، ربما تكون أبرز ساحات النجاة الروحية للشعوب المهزومة. فمنذ القرن التاسع عشر تفطنت هذه الشعوب إلى خطر الحكايات الشعبية ودورها المحوري في الحفاظ على الهوية القومية، وحفظها من الذوبان والتلاشي أمام طفرة وسائل الإعلام، ومحاولات دول عظمى طمس تاريخ الشعوب وإذابة خصوصياتها، وتنميطها حتى يسهل ابتلاعها، حيث يقول الباحث الأميركي جورج لافي ونسون: (ليس أخطر على الشعب الأميركي من أهزوجة أو حكاية هندية تتندر بها أمٌّ أميركية).

في السياق أستطيع الجزم باطمئنان أنْ ليس أخطر على نظام الأسد من قصة شعبية مثيرة للمشاعر تعزف على وتر (الموت ولا المذلة). واليوم وفي ظلّ قاعٍ لا قرار له من العدم المجلّل بيأسٍ شعبي مطبق، تتجه أنظار السوريين إلى مسلسل (ذئب العاصي)، ورغم الأخطاء والتجاوزات التي غصت بها الأحداث، تاريخياً وفكرياً ودرامياً، إلا أنّ الشخصية المحورية فيه، ورغم مغالاتها في دمويتها، غدت محطّ الأنظار والاهتمام. حقيقة ما يدعو إلى الاستغراب التماهي الشعبي الغريب مع المدعو عاصي الزند!. ربما لأنّ شخصية البطل الشعبي، بالمطلق، ليست مجرد حلم شاب مراهق حلم بأن يكون صلاح الدين يوماً، إنما انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة تنطلق بعيداً عن رقابة الوعي، ولذلك تمتلئ بالرموز التي لو تمكنا من تفسيرها لزودتنا بفهم عميق لنفس الإنسان المقهور ورغباته. شخصية تأخذ على عاتقها مهمة الإصغاء إلى نداء الكرامة وتتبعها، وتبحث عن موطن تلك القدرة التي بها تستطيع، وبمفردها، أن تأتي بالسكينة إلى مصير شعب بكامله، حتى تنقّي المجتمع من العداوات التي تشوه النفس البشرية.

وشخصية البطل الشعبي، في جوهرها، حقيقة مادية وموضوعية مرتبطة بالزمان والمكان، بالمعطيات والوقائع، وليست وهماً، ونبتعد أكثر عندما نقول: وليست استيهاماً، منطلقة من العامل الذاتي المشوه نفسياً، والعاجز مادياً أمام مواجهة العدو الطبقي، الداخلي والخارجي، وتحويل الواقع في وقتٍ واحد. لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن ترتبط البطولة علــى امتــداد الســير الشعبية بمنظمومة أخلاقية مثالية، بعضها يمثل الجوانب النفسية والسلوكية التي ترتبط بصفة البطولة ذاتها، كالشجاعة والإقدام والثقة بالنفس التي تفتقد لها الشعوب المنكوبة.

وعليه فإنّ شخصية عاصي الزند (الفرد) في هذا النصّ (الإشكالي) تنشأ من الاغتراب عن العالم الخارجي، من خلال الإحساس بالتناقض بين القيم التي يؤمن بها وصورة الواقع السائد. فرسالته الإنسانية الرمزية التي تتدرج، وللمفارقة، نحو العنف الدموي الصريح، هي الكشف عن الطريق المؤدي إلى النجاة وإن كان وعراً، ليدفع باتجاه تحطيم القيود المفروضة على الروح السورية الراهنة، التي يُهيأ لها أنّ هذه الشخصية المتمردة تمثلها وتفرّغ بواطن القهر وقلة الحيلة لديها: بطل "مظلوم" يعود بعد نحو مرور عقدين من الزمن إلى قريته، لاستعادة أرضه السليبة من قبل الآغا "الظالم"، فتبدأ فصوله "الأسطورية" في الدفاع عن حقه.

بدا الفيلم رسالة مباشرة تحرّض السوري المهزوم على أن يستحيل في عزّ ليالي القهر صوتاً وصدى، طالعاً من جسد الأرض، ماراً فوق الجراح، ليختم حياته بـ(رقصة العزّ الأخيرة)

جدير ذكره أنّ شخصية (ذئب العاصي) تشبه إلى حدّ كبير شخصية (أبو علي شاهين) في الفيلم السوري (الفهد) للمخرج الراحل نبيل المالح، إنتاج عام 1972. وأبو علي شاهين فلاح بسيط لم يستطع أن يدفع للإقطاعي حصته من المحصول، فسيق للسجن وفيه أذيق أشد ألوان العذاب، وبعدما يتمكن من الهرب يتجه نحو البراري معلناً معركة التمرد وحيداً على الإقطاع والدرك. كان فيلم (الفهد) من أهم الأفلام التي قبضت على اهتمام السوريين آنذاك، لأنه يتمحور حول معنى أن تكون هناك كرامة لا يمكن العيش دونها، لذا لا بدّ من المواجهة والدفاع عنها مهما كانت النتائج. إذ يبدو أن لا شيء يتغير في سوريا، فمنذ خمسين عاماً بدا الفيلم رسالة مباشرة تحرّض السوري المهزوم على أن يستحيل في عزّ ليالي القهر صوتاً وصدى، طالعاً من جسد الأرض، ماراً فوق الجراح، ليختم حياته بـ(رقصة العزّ الأخيرة). لا شك تبدو هذه الكلمات الشاعرية وصية أبطال الحكاية السورية الخالدة، وكأنها تعويذة تقي السوريين شرور نظام دموي مجرم، أو أنها، ربما، الخلاص بحدّ ذاته في بلاد تلبّستها روح الشيطان.