الإعلام السوري الحكومي في نصف قرن ودور فؤاد بلاط (2)

2021.04.30 | 06:35 دمشق

new-project-4-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

فؤاد بلاط خارج قيادة الإعلام

لم يكن من السهل على فؤاد بلاط أن يبقى في الإذاعة والتلفزيون بعد رحيل أحمد اسكندر أحمد، منتصف الثمانينات، الذي كان وزيراً صديقاً تقاطعا معاً في كثير من الطروحات والرؤى، لذلك استثمر أول فرصة لمغادرة السفينة إلى مركز التدريب الإذاعي والتلفزيوني التابع لجامعة الدول العربية ومقره في دمشق، وقد آلت الوزارة، بعد فترة قصيرة من إشراف فاروق الشرع على الوزارة نتيجة مرض أحمد اسكندر أحمد، إلى ياسين رجوح لمدة عامين، لتنتقل إلى محمد سلمان نحو خمسة عشر عاماً، خلال فترة وزارتي محمود الزعبي الذي نُحر أو أجبر على الانتحار.

وبالرغم من محاولات الوزير محمد سلمان ضمّ فؤاد بلاط إلى فريق عمله، إلا أنه لم يكن موظفاً عادياً ليتحالف مع محمد سلمان أو يقبل صيغه المهنية، أو أن يكون جزءاً من فريق شخص ذي مزاجية أمنية عالية، وكان أبعد ما يكون عن الإعلام إلا بصفته حالة إكراهية. سألتُ فؤاد بلاط ذات أمسية تسعينية من القرن الماضي: ما الذي يجعلك تقبل العمل مع أحمد اسكندر أحمد ولا تقبل العمل مع محمد سلمان؟

ارتشف فنجان قهوته وقال: الفرق أن محمد سلمان رجل أمن وموظف، أما أحمد اسكندر أحمد فهو قائد وصاحب رأي ورؤية وفكر.

لم يكن بلاط ينتظر تعليقي أو رأيي، كان يحكي ويوصف ويتحدث عن مرحلة ما في حياته، بصفته الأقدر على تقييمها أو توصيفها، وقد اشتهر فؤاد بلاط بأن لديه قدرة عالية على توصيف المراحل أو التعبير عنها بسخرية أو بنكتة حادة.

 قَبِلَ فؤاد بلاط أن يعمل في أرشيف جريدة الثورة منفياً ومغضوباً عليه من الوزير، على أن يعمل مع محمد سلمان الذي كان يتصل برئيس تحرير جريدة الثورة، ليطمئن أن فؤاد بلاط يداوم في شعبة الأرشيف، في محاولة منه للإساءة إلى إعلامي من عظام رقبة النظام، واكب تحولات حافظ الأسد في السبعينات والثمانينات بما فيها مرحلة الصراع مع الإخوان المسلمين ومجزرة حماة، مع إدراك كل من يعمل في الشأن العام في سوريا أن المدير لأي مؤسسة إعلامية أو سواها في سوريا، يكاد يسلم أكثر من نصف منصبه للأجهزة الأمنية، وهذا ليس بجديد وكل من يدعي عكس ذلك يكون متوهماً، وهو الذي جعل فؤاد بلاط يقول في حوار صحفي مع الإعلامي محمد منصور: الخوف هو المستشار الأول لكل من يعمل في التلفزيون!

لم يقف الأمر عند ذلك في مسار العلاقة بين بلاط وسلمان بل ارتفعت وتيرة الخلاف في وجهات النظر مع الوزير ليصرخ فؤاد بلاط في وجه الوزير في مؤتمر اتحاد الصحفيين في التسعينات

لم يقف الأمر عند ذلك في مسار العلاقة بين بلاط وسلمان بل ارتفعت وتيرة الخلاف في وجهات النظر مع الوزير ليصرخ فؤاد بلاط في وجه الوزير في مؤتمر اتحاد الصحفيين في التسعينات: لابد لي أن أشكرك سيادة الوزير على أمرين: الأول هو إنجازك المهم في جعل الصحافة السورية تُقرأ والإذاعة السورية تُسمع والتلفزيون السوري يُشاهد، والثاني هو نجاحك في ليّ الذراع الجماعية للصحفيين السوريين، فأجابه الدكتور سلمان بأنه فهم الأمر الأول بحسن نية، ووجد في الثاني سوء نية، لكن بلاط تابع قائلاً: النية السيئة موجودة في الأمرين معاً يا سيادة الوزير!

كان من الصعب على محمد سلمان أن يقبل ذلك الكلام حتى في إطار مؤتمر اتحاد الصحفيين، وهو الذي فتح باب إقامة تماثيل لحافظ الأسد يوم كان محافظاً للرقة مطلع الثمانينات، والوزير نفسه هو من ترأس اللجنة الأمنية للمنطقة الشرقية في مرحلة الإخوان المسلمين التي أقرت وفق ما يروي شهود عيان إعدام أشخاص، ربما منهم من أقارب أو معارف فؤاد بلاط لم يكونوا ممن ينتمي إلى التنظيم!

محمد سلمان نفسه عاد ليقدم مبادرة تصالحية "وطنية" أول ثورة 2011 خوفاً على هويته الفرعية، وهو يشاهد بعينيه، مآل التمثال الذي شيّده قبل أربعين عاماً كيف يبولُ عليه مواطن سوري أو يهشّم رأسه، الوزير سلمان ذاته الذي قدّم مبادرة يؤكد فيها على سوريته، هو ذاته الذي شرّع وجود المزارات الإيرانية في الرقة!

ما الذي دفعه لتقديم تلك المبادرة أول ثورة 2011؟ أهو نضج السبعينات من العمر أم رغبة في استعادة الدور؟ أم الخوف على مصير هويته الفرعية؟

الوزير سلمان ذاته كان ينظر إلى الإعلام بصفته زينة، وهو ذاته الذي كان يفتخر أنه جند 30 ألف مواطن رقاوي في كتابة التقارير كما يروي مقربون منه!

مرحلة إعادة الاعتبار في مرحلة ما بعد محمد سلمان

أن ينقل فؤاد بلاط إلى العمل في الأرشيف لا يعني أن السلطة غاضبة عليه، بل يعني أن حلفاءه في النظام لم يستطيعوا أن يصدوا أذى الوزير عن حليف لهم، خاصة أن فؤاد بلاط رجل التوازنات الصعبة، لا يمكن القفز فوق تجربته وحضوره، لديه شبكة علاقات متعددة الجوانب من أقصى حدود المعارضة إلى أقصى حدود الموالاة ورجال الأمن النافذين، خبرة طويلة، مثقف موسوعي، رأي هادئ، رزين، عاقل، حكيم، رجل إطفاء في المواقف الصعبة، يشكل حضوره بجانب أي وزير قيمة مضافة، ورجل حكمة في المواقف الطارئة، لذلك تم تعيينه مستشاراً في وزارة الثقافة، ومعاوناً لوزير للإعلام، ولم يغب عن المشهد رغم تقاعده بالمفهوم الوظيفي، وهو المقرب من آصف شوكت، الذي بدأ نجمه بالسطوع في المرحلة الجديدة التي شهدت مجيء رئيس شاب استبشر به السوريون أول الأمر خيراً، كان يحتاج فريقه العامل إلى تجربة مثل تجربة فؤاد بلاط لديها خيوط ممدودة مع مختلف المشارب والاتجاهات.

أن ينقل فؤاد بلاط إلى العمل في الأرشيف لا يعني أن السلطة غاضبة عليه، بل يعني أن حلفاءه في النظام لم يستطيعوا أن يصدوا أذى الوزير

وجد عدد من أعضاء فريق العمل المحيط بالرئيس الجديد في فؤاد بلاط صوتاً وطنياً صادقاً، وحالة قيمية أخلاقية في الصحافة السورية، كانت طبيعة جلساته مع الوزراء أقرب لجلسة الندماء منها للمستشار بالمفهوم التقليدي، كأن يقدم رؤى وأفكاراً للوزير في القرارات الاستراتيجية وكان فؤاد يتجاوز الشخصي، وهو الذي ابتعد عن مفهوم المنصب التقليدي، ونفسه مشبعة من هذا.

أغدقوا عليه المهام، إلا أنه بقي في كل تلك التحولات حاملاً الكتاب في يده، يمكن أن ينحّي جانباً أي حديث عن العمل أو الوظيفة، بالحديث عن كتاب أو النقاش في فكرة، أو ليشجّعك على قراءة كتاب أو يعيرك إياه، شرط تأكده من أنك ستعيده، فالرجل الذي أدار دفة الصورة في سوريا كان عشقه الكتاب والكلمة.

مرحلة ثورة 2011 والبحث عن حل وطني

سألتُ "أبا عمر" مرة إبان بداية الثورة، لمَ لا يشارك الشباب السوريون أحداث الثورة، وهو من سيعطيها ثقلاً لا يمكن التشكيك به بحكم صلاته مع النظام وعدد من وجوهه الأمنية؟ قال: أنا أشارك بالثورة منذ البداية، بل قبل أن تبدأ، لكن على طريقتي الخاصة، لو كنتُ في عمرك أو عمر أولئك الشباب لكنت ربما شاركتُ بطريقتكم ذاتها، لكن انتبه يا ابني، لا تصدق أن قادة الدول الأخرى الذين يمارسون أقصى حدود الاضطهاد بحق شعوبهم، سيساعدون ثورة شعب يريد الحرية! لا تصدق وأنت غالٍ عليّ، أن سوريا بكل حضارتها سيقودها هؤلاء إلى الحرية، انتبهوا! المهم أن لا نبدّد سوريا، أنا سأسعى بكل ما أوتيت من علاقات وأفكار أن أبحث عن حلّ، ومن ينتظر منهم الشباب السوري الدعم يريدون أن يدمروا رمزية هذا البلد.

وناقشني وقتها في تفاصيل مقالة أخذتْ صفحة كاملة في جريدة تشرين كتبتُها آنئذ بصفتي كاتباً وعميد كلية جامعية، ودعوتُ فيها لتعديل الدستور وإعادة النظر بوضع الأجهزة الأمنية وحزمة إصلاحات أخرى، مستفيداً من مرونة النظام آنئذ في نشر ما يخالفه الرأي، وقد كانت رئيسة التحرير آنئذ الصحفية سميرة المسالمة.

يؤكد السياسي والإعلامي السوري رياض نعسان آغا عبر صفحته على الفيس بوك بعد رحيل فؤاد بلاط ما قاله فؤاد حول أنه شارك بحماية عدد من شباب الثورة بطريقته الخاصة بقوله: "في الشهور الثلاثة التي تلت قيام الثورة منتصف آذار 2011 حيث كانت لقاءاتنا شبه يومية للبحث عن مخرج آمن لبلدنا الذي أدركنا أنه ينهار وكان معنا في هذه اللقاءات صديقنا المشترك يومذاك آصف شوكت...." هذا المنشور قد يقدم تفسيراً إضافياً، لأسباب تفجير لما كان يدعى بـ "خلية الأزمة" في اجتماعها الدوري، الذي غاب عنه عدد من أعضائها، ومن قام به ولماذا قام به؟

تتقاطع تلك المراحل من عمر فؤاد بلاط مع الشأن العام السوري، وربما تلخص محطات مفصلية منه، بطريقة أو بأخرى، خاصة أننا أمام شخص كان هاجسه الرئيس الشأن العام ولو من جانبه السردي، وهو الذي كانت تشغله الذاكرة الشفوية السورية وكل من حاول أن يقدم رؤية مختلفة في منطقة عالم الصحافة، حيث لم يتردد في حمايته والدفاع عنه، كونه كذلك من المؤمنين بدور النقابات والاتحادات، التي من مهامها الرئيسية حماية المنتسبين إليها في الدول التي ليس لها طابع أمني.

عاد فؤاد بلاط إلى الأضواء رسمياً مرة أخرى مع بداية الثورة، عبر إسناد مهمة نائب رئيس المجلس الوطني للإعلام الذي أُحْدِث مع بداية الثورة، كجزء من الإصلاحات التي تأمل السوريون حدوثها

سألته مرة بشأن اعتقال أحد أعضاء اتحاد الصحفيين، ولماذا لا يتدخل الاتحاد، فأجاب قائلاً: الأفضل ألا يتدخل الاتحاد لأنه لو ذهب مندوب الاتحاد إلى هذا الفرع الأمني أو ذاك، وسأله رئيس الفرع أو سواه عن رأيه بما " ارتكبه" هذا الصحفي أو ذاك بحق الوطن، فلن يتجرأ إلا على أن يقول: بالعكس أنا الآن أطلب أن تزيدوا له العقوبة، لكي يحمي نفسه على الأقل، لذلك أفضّلُ في تلك الظروف اللجوء إلى العلاقات الشخصية لأنها ستجدي أكثر!

عاد فؤاد بلاط إلى الأضواء رسمياً مرة أخرى مع بداية الثورة، عبر إسناد مهمة نائب رئيس المجلس الوطني للإعلام الذي أُحْدِث مع بداية الثورة، كجزء من الإصلاحات التي تأمل السوريون حدوثها، حيث كان من المقرر إلغاء وزارة الإعلام، ونقل المهام إلى المجلس لإحداث نهضة في العمل الإعلامي، وشهدت فترة عمل المجلس الوطني للإعلام (2011-2016) في سوريا ازدهاراً في إصدار تراخيص المطبوعات والمواقع الإلكترونية، وشجع المجلس التراخيص عبر تسهيل الإجراءات الإدارية، وكان من أهم الجوانب التي يسّرها المجلس هو امتلاك الوسائل الإعلامية أو اعتمادها، حيث تم الترخيص لأكثر من 54 صحيفة ومجلة، و أكثر من 60 موقعا إلكترونيا، وحاول المجلس تعديل مشروع قانون الإعلام في سوريا  والتركيز على فكرة الحرية والمسؤولية، وحرية الوصول إلى المعلومة، وعدم التدخل في الخصوصية الشخصية، والسعي لإنشاء محكمة خاصة بالإعلام تنظر في جميع القضايا المتعلقة بالنشر، وإلغاء عقوبة السجن بحق الصحافي، وضرورة حضور ممثل عن نقابة الصحفيين مع الإعلامي خلال مراحل التحقيق.

كان فؤاد بلاط يتحدث عن هذا المجلس كحالم رومانسي، بصفة ذلك المجلس جزءاً من خطة الدولة للتغيير والتطوير، غير أن انتصار جناح الحسم العسكري والتدخل الروسي والإيراني، وتقلبات الثورة وظروفها قد أحبط تلك المحاولة الإصلاحية للإعلام السوري، وأماتها بعد ست سنوات على الإعلان عنها، وترافق ذلك مع انكسارات عديدة أصابت فؤاد بلاط، الحالم بسوريا أقل ألماً وأقوى حضوراً.

 

فؤاد بلاط وشعرة معاوية

استطاع النظام السوري أن يحول كثيرا من الشخصيات السورية إلى لاعبي سيرك ضمن حلبته، ربما إلى ممثلين أحياناً، أو إلى رجال بأقنعة عديدة، أو إلى قطعة من المطاط، أو إلى مختار يقوم بأدوار عديدة تلتبس ببعضها وتتقاطع.

في الوقت الذي يجب أن تحافظ فيه على أمانها الشخصي وأمان وطنها وأصدقائها وقناعاتها، وبلغة فؤاد بلاط "سمعتها الحسنة"، فإنه عليها ألا تفقد ذاتها، ومنظومتها القيمية والأخلاقية، فلا تستطيع قطع الخيوط مع النظام، وفي الوقت نفسه ليست محسوبة عليه بالكامل، لكنها ليست مبتعدة عنه، تلك لعبة سورية لا يجيدها إلا من بقي يتحرك في هذا المشهد يومياً، ويلجأ إلى بيته عدد من الأشخاص بهدف طلب المساعدة على مختلف الصعد من باحث عن وظيفة أو ترقية أو رفع مظلمة أو إجراء عملية جراحية، وهذه كانت حالة فؤاد بلاط في أحد جوانبها.

حين يصبح عنوان بيتك معروفاً لمئات من السوريين لا بدّ أن تبقي الخيوط ممدودة مع النظام وألعابه، قد تصبح جزءاً منها، وهكذا يصبح العنوان التالي أشبه بثيمة: "الشارع الذي قبل دوار كفرسوسة من جهة البرامكة، خط السرافيس، على اليمين، باتجاه نادي نقابة المعلمين رابع بناية يميناً، الطابق الأول، يمكنك أن تجده دون موعد إما الساعة السادسة مساء أو بين التاسعة والعاشرة صباحاً"!  سيفتح أحد أبنائه الباب مرحباً، يقدم لك كأساً من الشاي بانتظار أن يأتي فؤاد بلاط ليسمع حكايتك ومظلوميتك، حاجتك، وجعك.

لا تكترث كثيراً بالبداية، سيجد ألف رابط معك، وهو يناقشك في تطور سوريا وكيف تحولت عبر ستين عاماً! وفي الوقت الذي تبحث أنت فيه عن منصب، أو ترقية وظيفية، ربما عن وظيفة، عن حلمك بترك منطقة الفرات للاستقرار في دمشق يحضر لك فؤاد بلاط كثيرا من التفاصيل عن بيئتك وأهلك وعشيرتك.. سيكون للرجل أثر نبيل في شخصيتك، وهو إحداث الصدمات، وتحفيز القدرات الكامنة عند من يعرفهم، وأنت ستتساءل كذلك: كيف لشخص أن يبقى هذا الزمن الطويل دون أن يصطدم مع السلطة ككتلة؟ كيف تكون ابن بلد ومساعداً للفقراء والصحفيين ومثقفاً، وفي الوقت نفسه تسهر مع عتاة البلد، ولا تفقد ذلك الخيط الرفيع في النفس الإنسانية من الطيبة والبساطة والقرب من القلب؟

"الكاركتر" الذي بدا فيه فؤاد بلاط كاركتر معقد جداً يجمع خلطة من الشعبوية والنخبوية والوطنية والشهامة، كذلك الانتماء إلى الطبقة الوسطى، التي ترى أن رأسمالها الرمزي هو سمعتها الحسنة، تلك السمعة التي قال عنها فؤاد بلاط إنها حمل ثقيل يربطك، ويصبح من الصعب أن تتخلى عنه، وهو في الوقت نفسه لا يريد أن يتخلى عنه!

كانت أجوبة الرجل تدهشنا، حيث يلجأ إلى موظفين في المؤسسات التي تعنى بخدمة الناس، له مرتبة وحضور في أنفسهم. تساءل أحدهم مرة في مجلس بيته: ِلمَ لم يلجأ إلى آصف شوكت لكي يساعده؟ فقال له: آصف شوكت ألجأ إليه من أجل حالة اعتقال، مظلمة كبيرة، وليس لترقية وظيفية، ألجأ إليه في حال حدوث ظلم فادح ونريد أن نزيله، أما حوائج الحياة اليومية فتقضى بأقل من ذلك بكثير!

تمشي في أروقة الإذاعة، يدور جدل كبير حول قضية يومية، بعد شرب عشرات كؤوس الشاي والقهوة، يأتيك رأي من شخص يجلس في زاوية ما في أحد المكاتب المطلة على ساحة الأمويين، لم يشارك في الحديث من قبل، يقول لك: لو كان هذا في زمن "الأستاذ" لكان حلّها بغير هذه الطريقة، تسأله عن الحل السحري، يقول لك: كثير من حلوله لا غالب فيها ولا مغلوب، يا أخي نشعر كأنه بيننا، نأخذ حقوقنا، يرضينا من كيسنا، نشعر أنه قريب منا، تتساءل: هل حلوله عابرة للأزمنة، يقول لك لا أعرف، ما أعرفه هو أنه كان سيحلها بأقل من ذلك بكثير!

"الكاركتر" الذي بدا فيه فؤاد بلاط كاركتر معقد جداً يجمع خلطة من الشعبوية والنخبوية والوطنية والشهامة، كذلك الانتماء إلى الطبقة الوسطى، التي ترى أن رأسمالها الرمزي هو سمعتها الحسنة، تلك السمعة التي قال عنها فؤاد بلاط إنها حمل ثقيل

حين قدمت له مجموعتي القصصية همهمات ذاكرة عام 1996 وكان إهداء المجموعة له، وقد قلت فيه (حين أنظر إلى الفرات يحضر فؤاد بلاط فينشدان معاً أغنية العطاء والوفاء عبر إيقاع الرجولة) اغرورقت عيناه بالدموع قائلاً: أنت تربطني بشيء عظيم وهو نهر الفرات، ولم تمر أيام إلا وإذ به يحدد لي موعداً مع الكاتب السوري حسين العودات في منطقة فكتوريا وسط دمشق بهدف نشر مجموعاتي القصصية في دار نشره، لكن لظروفي المالية المتعسّرة آنئذ لم يحدث ذلك!

ناقشني فؤاد بلاط بالمجموعة نصّاً نصاً، ولفت نظري إلى عدة أشياء نمّت عن قراءة الخبير الودود، ومما أذكره قوله: الحياة ليست أبيض وأسود يا أحمد، أتَفَهّمُ أنك ابن الرابعة والعشرين، والبشر في هذا العمر يحبون أن يروا الناس، وقد انقسموا إلى فسطاطيْن: فسطاط فؤاد بلاط الذي يساعد الناس، وفسطاط آخر كريه لا يساعد الناس، الحياة يا أحمد أعقد من ذلك بكثير وأوجع من ذلك بكثير..!

ولأنه ابن بلد، وابن البلد، فقد سمحنا لأنفسنا، نحن زوار بيته، التدخل في كثير من خصوصياته، ولا سيما أن هذا الرجل ينتمي إلى زمان يختلط العام فيه بالخاص، إلى درجة أننا نسمح لأنفسنا أن نناقشه بأسماء أولاده، وكيف جمع "عمر ومعاوية وعلي ومحمد" في بيت واحد، يبتسم ويقول: هم من بيت واحد!

نناقشه بالمثل الفراتي: "عاني يحكي على راوي"، كإشارة إلى حالة النظام وأركانه مع الشعب، وفقدان بوصلة التواصل، وقد جمع فؤاد بلاط في نسبه المكانين معاً، فآل الراوي أخواله وأخوال أولاده، وهو ينحدر من بلدة عانة، وهما بلدتان على نهر الفرات في العراق، وقد انتقل جزء من العائلتين/المكانين إلى منطقة الفرات الأوسط منذ نحو 200 سنة، لينشرا معاً حالة من التدين الصوفي والشعبي، وتوعية الناس هناك في دينهم، لذلك تتمتع العوائل المنحدرة من هاتين البلدتين باحترام اجتماعي كبير عند عامة الناس في منطقة الفرات. إنها جزء من السمعة الحسنة التي قال عنها فؤاد بلاط: هي شيء ثقيل، لكن لا أنصحك أن تتخلى عنه! السمعة قد تتجلى أحياناً على شكل" شعرة معاوية" التي حافظ عليها فؤاد بلاط مع النظام الحاكم عبر عمره الطويل، ليستطيع من خلالها الحلم بواقعية، وفي الوقت نفسه لتكون جسراً لخدمة الآخرين والدفاع عنهم ومتابعة قضاياهم!