الإرادة هي أُمُّ الأخلاق

2020.07.19 | 00:04 دمشق

assad.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما إن تحاول الكتابة عن أي شأن سوري، حتى تقودك كتابتك إلى أن تجد نفسك في مواجهة الاستبداد. نعم، أينما وليت وجهك في هذا السجن الكبير المسمى سوريا؛ سيطالعك الاستبداد بسطوته وغطرسته وبانتشاره؛ فهو استبداد يسكن كل تفاصيل حياتنا نحن السوريين، ويرافقنا من المهد إلى اللحد.

ليس استبداد الحاكم وعسسه وأجهزة قمعه فقط، بل واستبداد رجل الدين ورجل السياسة وولي الأمر والمعلم وحتى بائع أوراق اليانصيب.

والمشكلة ليست في الاستبداد وأدواته فقط، إنما في تداعيات هذا الاستبداد الأكبر والأفدح على ما تبقى في المجتمع: على الثقافة، والدين، والأخلاق، والعلم، وغير ذلك.

منذ عدة أيام تداول كثيرون ما كتبه طبيب من اللاذقية، وبغض النظر عن نوايا المتداولين المتباينة، فمنهم من رأى فيه كلمة حق في حضرة سلطان جائر، ومنهم من أرادها شماتة، ومنهم من أمل أن الصمت المفروض على أنفاس السوريين في مناطق سيطرة النظام قد بدأ يتحطم...إلخ، ثم بغض النظر عن كل هذا، فإن هذا الطبيب المغوار قد قام بحذف ما كتبه، وبرر حذفه باستغلاله من المعارضين واصطيادهم في الماء العكر، وأتحفنا بنص جديد يليق فعلاً بموال من درجة "شبيح".

 هذا الدكتور الذي كتب عند صحوة ضميره:

"اليوم وبعد ستين عاماً تتفوق دول الخليج الرجعية...!!!! على أوروبا في النهضة والعمران والتكنولوجيا والتعليم والرفاهية والخدمات وأصبحت سوريا تدمي القلب لسوء أحوالها…. لقد تفوق السوريون كأفراد على الجميع أينما حلّوا، ورسبوا جميعاً في وطنهم وتحولوا إلى مرتزقة يُقتلون في ليبيا ……. ونازحين يُذبحون في لبنان ……. ولاجئين يُغتصبون في المخيمات …… ومهاجرين يغرقون في البحر ……. وجياع ينتظرون المساعدات …… وفقراء يقفون بالطوابير للحصول على ربطة خبزٍ لا تؤكل أو على باكيت حمراء تظنّ أن تبغها زُرع على قبور الموتى ………. والأمرُّ من كلّ ذلك: لا فلسطين تحررت ……….. ولا الجولان عاد ………. ولا القنيطرة شُيّدت ……. نصف البلاد بأيدي روسيا والإيرانيين....... وشرق الفرات أصبح أميركياً…… والشمال أصبح تركياً………. وسُرق النفط، وضاعت المرافئ وغاب الفوسفات ….. وإدلب خارج الحدود …… وإسرائيل تدكّنا كلّ يوم ولم تتعب ……. لماذا حدث كلّ ذلك…… لا شكّ أنّ هناك مؤامرة ولا شكّ أن ذاك الحلف مجرمٌ وخطير….. ولكن أنتم ماذا أعددتم لهذا اليوم العظيم….!!! لطالما حملتم لواء التحرير وعصا المقاومة هل أعددتم شيئاً والفساد ينخر جسد الوطن… هل أعددتم شيئاً والكذب والمحسوبيات والرشاوي تنخر نخاع الوطن …….. أستغرب كيف لمسؤول يستطيع أن ينام…. أستغرب كيف لمسؤول يستطيع أن يلقي خطاب النصر والصمود على شعبٍ فقد الوعي من شدة القهر ولوعة الحرمان وألم الجوع …… ألم يحن الوقت ليجري البعثيون مراجعة شاملة لنتائج سياساتهم ونهجهم وسلوكهم وممارساتهم …………!!!!!!! ألم تسقط تجربة الحزب الواحد في كلّ الدنيا.!!!!!!!! هل يوجد سوريٌ واحد مقتنعٌ بنزاهة هذه الانتخابات….!!!! والسؤال الأخير: ألم يحن الوقت ليعترف البعثيون بفشلهم في قيادة الدولة والمجتمع".

ولم تطل طويلاً هذه الصحوة؛ فما إن يصب أحد ممن يعيشون بمتناول يد القمع بهذا الوباء المسمى "ضمير"، ويقترب من الخطوط الحمر، حتى يصبح في موقع الشبهة؛ فيسرع الناصحون والمخبرون وأزلام السلطة إلى قرع ناقوس الخطر؛ ليكتشف المصاب بصحوة ضميره حجم التهلكة التي أوقع نفسه فيها، فيسرع للدفاع عن نفسه، والدفاع عن النفس في منطق أجهزة القمع إياها ينطلق من ثلاثة مرتكزات أساسية لا غنى عنها، ويمكن تطعيم هذه الركائز بما يكفي النفس المرعوبة، لكي تتأكد من أنها غسلت خطيئتها الكبرى.

أولى ركائز الدفاع عن النفس في مملكة الاستبداد الأسدية، هي: مديح القائد الحالي والقائد "الخالد"؛ فهذه فاتحة البراءة، وإثباتها يحتاج بلاغة وتملقاً وانبطاحاً وتصاغراً...إلخ.

ثاني الركائز، هي: تقديس الجيش السوري، ووصفه بما تتفتق عنه النفس المرعوبة، مع وجوب الانتباه جيداً ألا يصل مديح الجيش إلى مرتبة قائد الوطن الحالي وقائده الخالد الآفل.

ثالث هذه الركائز، هي: شتم المعارضة بقضها وقضيضها، وتخوينها، واعتبارها الرجس الأكبر، والتأكيد على البقاء ضمن القطيع، وعلى أن من المحال، وحاشا، أن يفكر ولو لحظة واحدة بمغادرة هذا القطيع.

وعلى هذا، فقد حذف الطبيب الصميدعي ما كتبه، وسارع فوراً للدفاع عن نفسه، ولتبرير الجرم الخطير الذي ارتكبه؛ فكتب ما يلي:

  1. الفاتحة بشتم المعارضين كلهم دون تمييز ومهاجمتهم طوال تسع سنوات:

" لقد اصطاد المعارضون الذين لم أحترمهم يوماً، بل وهاجمتهم طوال تسع سنين ما كتبته بالأمس مما اضطرني لحذف ما كتبت".

ولعله أدرك أن هذا غير كاف؛ فأضاف موضحاً مدى كرهه للمعارضين الذي وقفوا ضد الرئيس، وتمييزه لهم عمن أساؤوا وفسدوا، لكنهم لم يقفوا ضد الرئيس:

حتى أولئك الذين أساؤوا ولم يتخندقوا ضد الدولة لا يمكن أن أقارنهم بالمعارضين الذين ارتموا بأحضان السعودية وتركيا وقطر وركبوا القطار الصهيوني وما آلمني أنهم استثمروا بمقالة الأمس.

  1. وبعد التبرؤ من المعارضة وشتمها تأتي فقرة إثبات الولاء:

تصوّر المعارضون أني انقلبت على الفكر الذي تربيت عليه وهذا ما لم أقصده مطلقاً ولا يمكن أن يكون.......
لقد انتقدت السلوك ولم أنتقد الفكر وهذا ما يوصينا به سيّد الوطن
ذاك الفكر الذي يجري في عروقي منذ طفولتي من خلاله تعلّمت وبفضله أصبحت طبيباً..

  1. وبعد ذلك، لابد من الوصول إلى قمة الولاء التي هي ركوع في حضرة سيد الوطن:

" لا تقبل خلية واحدة في جسدي إلا أن أكون مع الوطن ومع سيد الوطن، ولا أنسى ما حييت يوم استقبلني وكم سحرني نبله وتواضعه ورقيّ فكره، حتى كتبت له أكثر من مقال وصفحتي شاهدة على ذلك".

ولا تكتمل الصلاة إلا بذكر القائد الخالد؛ كي تصبح مقبولة:

"لقد انتقدت الممارسات التي أساءت للوطن حيث ركب ضعاف النفوس قطار البعث وهللوا وصفقوا وهم أبعد الناس عن القيم التي أرساها القائد الخالد".

عند هذا، قد يكون مفيداً التذكير بقول الكواكبي، سيد من فهم الاستبداد ومن كتب عنه:

«المستبد يرى النفاق سياسة، والتحيّل كياسة، والدناءة لطفاً، والنذالة دماثة، الاستبداد يُفسد الأخلاق، لأنه يغيب العدالة الاجتماعية، ويجعل المواطن العادي خانعاً ذلولاً له، إما بسبب الحاجة وإما بسبب الخوف، وإما بسبب الطمع".

"وفي عهد الحكومات المستبدة ينحط الفرد في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم وأعوانه بأشياء من التملق وخدمة الشهوات والتجسس ونحو ذلك".

"الاستبداد يستولي على العقول الضعيفة، فضلاً عن الأجسام، فيفسدها كما يريد ويتغلب على الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق كما يهوى".

ولأن الإرادة هي أم الأخلاق، كما يقول الكواكبي، فإن من لا إرادة له لا أخلاق له، ومن يصحو ضميره قليلاً؛ ليعود مرعوباً إلى غيبوبته، قد كان حرياً به، وأسلم له، أن يخرسه إلى الأبد.