الأغنية الثورية السورية.. استسهال ونخبة نائمة

2021.04.23 | 09:29 دمشق

asht-swrya-w-ysqt-bshar-alasd-1024x576-6l4nu7isk76dgh0xwtcxy7ibp5ztoslmp2dx4vbfs9f_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

في القرن التاسع عشر بدأت الحركات التنويرية بالتشكل في المنطقة وظهرت حالات مقاومة فكرية بالتوازي مع المقاومات الأهلية للدفاع عن الهوية العربية وثقافتها التي أخذت بالانحسار أثناء الوجود العثماني ومجيء الاحتلال الإنكليزي إلى مصر، وكانت متمثلة بالنضال الأدبي والمسرحي والموسيقي.

ومن أهم من عمل في الشأن الأدبي في بلاد الشام وقتها، بطرس البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وطاهر الجزائري إضافة إلى دورهم في النهضة الاجتماعية ودورهم الرائد في تأسيس الجمعيات الثقافية آنذاك.

أما في مصر فقد كان النضال الأدبي واللغوي متمثلا أيضا بشخصيات مهمة مثل قاسم أمين والشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي، حيث عملوا على التنوير الأدبي الثقافي في ظل ظروف لا تخلوا من الرجعية والجهل، فالاحتلالات الطويلة الأمد للمنطقة عملت على خلخلة المجتمع فكريا وأدبيا وثقافيا وعلى جميع أصعدة الحياة بشكل عام.

وفي مجال الفنون الأخرى كالمسرح والموسيقا برزت حالات من المقاومة الفنية في الشام ومصر أيضا لم تكن ولادتها بالسهلة نتيجة التعصب الديني الناجم عن غسل أدمغة الناس، وقد كان التعصب السائد يخدم الطبقات الحاكمة وقتها.

برز في تلك الفترة نخبة من رواد المسرح العربي الذين عملوا على إحياء القصص العربية الأصيلة و كانوا يجربون إيصال الأفكار التحررية ورسائل مبطنة تذكر بقوة ومتانة وأصالة الموروث الثقافي العربي كأبو خليل القباني في الشام الذي كان رائد المسرح العربي بالإضافة إلى مارون النقاش واسكندر فرح.

وفي مصر، برز في مجال المسرح عدة شخصيات أغنت الحالة الثقافية بشيء من التجديد منها يعقوب صنوع ويوسف الخياط وسلامة حجازي وأبو خليل القباني، الذي تابع مسيرته الفنية بعد أن هاجر من الشام بسبب الاضطهاد وحرق مسرحه من بعض المدفوعين من الوالي آنذاك. ولم تنته معاناة القباني بعد سفره إلى مصر فقد بدأ صراعه مع الإنكليز الذين مارسوا ضغوطا كبيرة عليه لصياغة نصوص مسرحياته على أساس قصص من الأدب الغربي بدلا من نصوصه المستوحاة من الأدب العربي، حيث إن أسلوبه الذي جذب الجمهور العربي لم يرق لهم فقاموا بحياكة المؤامرات ضده ثم حرقوا مسرحه في مصر ليتعرض لهذه الحادثة مرتين.

لقد كانت هذه التجارب التي تحدثنا عنها في بدايات القرن التاسع عشر وأواسطه ولم تكن واضحة موسيقيا من باب المقاومة والتنوير إلى أن أتى الشيخ سيد درويش البحر الذي عرف باسم سيد درويش، حيث ولد في العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر .

وبعد أن تعلم أصول التجويد والموسيقا العربية بشكل ممتاز لحن الأدوار والموشحات التي لا يزال إرثها الموسيقي متداولا حتى يومنا هذا، وغناها بصوته، كما لحن أغاني و"طقاطيق" مستوحاة من الواقع الصعب للمجتمع المصري حيث غنى للعمال والفلاحين ولامس قضايا مهمة كغلاء الأسعار والفقر والاستبداد، ولم تكن ألحانه هزيلة بل كانت الكلمة واللحن تتماشيان بشكل متوازي من حيث الجودة فقد كان الكلام مشبعا بالهموم والسخرية والخوف على مصير البلد بسبب استبداد الإنكليز وقتها بينما كانت موسيقاه مشبعة بالأصالة والتجديد اللحني المنطقي، وبالتوازي مع ذلك تمكن من خلال سكيتشاته المسرحية إيصال أفكاره المقاومة التحررية لشريحة كبيرة من الشعب وقتها وحتى يومنا هذا عندما نسمع اسمه نتذكر لقبه الشهير بفنان الشعب حيث إن أغانيه لا تزال تلامس واقع كل مواطن يعيش في شرقنا البائس.

ومن التجارب المهمة أيضا في مصر على سبيل المثال لا الحصر تجربة الثنائي المهم الشاعر أحمد فؤاد نجم و المغني والملحن الشيخ إمام عيسى، اللذان بدأا تجربتهما الفنية الفكرية الأدبية الموسيقية والسياسية.

لامست تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم مشاعر الشعب المصري ومشاعر كل الشعوب التي تحمل المعاناة المشتركة فغنيا ضد الاستبداد واعتقلا وغنيا للقضية الفلسطينية ولم يغب عن تجربتهم الجدية السخرية في أغانيهم من الأوضاع الاقتصادية المتردية وقد جالوا على المسارح ومختلف الأماكن في الدول العربية حتى أصبحوا رمزا للتحرر الإنساني من الاستبداد بجميع أنواعه.

أما من الناحية الموسيقية ورغم تطور الجمل اللحنية، تعتبر أغاني الشيخ إمام وألحانه تتمة لمدرسة سيد درويش من ناحية النفس الثوري في موسيقاه ونلاحظ هذا الشبه بأغنية "إذا الشمس غرقت في بحر الغمام" وعلى سبيل المثال في الأفكار المشتركة أيضا نذكر أغنية "شيد قصورك عالمزارع" التي تحض العمال والفلاحين والطلاب على كسر نير الاستبداد والثورة على الظلم حيث كان درويش في أيامه يغني أيضا للصيادين والفلاحين والعمال والشيالين وهذه الشريحة المستهدفة تعبر عن الفئة العظمى من شعوبنا طبعا.

الأغنية الثورية والربيع العربي

في أيامنا وبعد مجيء الربيع العربي وبدء الثورات وحركات تحرر جديدة في معظم الدول العربية كان من المفترض أن تكون الأغنية الثورية وبعد مرور وقت من الزمن على التجارب التي سبق ذكرها من الناحية الموسيقية أن تكون تطورا منطقيا للحن أو من باب المحاكاة لأن مدرستي درويش وإمام لم تكونا غريبتين بعضهما عن بعض بل يمكننا اعتبارها رسالة أكملها الشيخ إمام عن سيد درويش، لكن بعد مرور الزمن وخلال ثورة يناير في مصر برزت بعض الفرق الموسيقية بتجارب لا يضاهي لحنها مغزى كلامها وعبرت عن الثورة بمعنى موسيقي سطحي لا يمت لإرث من سبق ذكرهم بصلة، بمعنى أن كلمة ثورة عندما توجد في الأغنية فعلينا أن نصرخ ونلحن على مقامات حزينة لتذكرنا بالإجرام والدم وناهيك عن قرع الطبول المزعج الذي ذكرني بمسيرات التأييد ذات الصنوج والنحاسيات السوفييتية البالية والأداء العزفي العادي جدا.

طبعا هناك تجارب لم تكن هزيلة في مصر خلال الربيع العربي وكانت الكلمة توازي اللحن من ناحية الجمال كأغنية منصورة يا مصر ويا مصر هانت وبانت لمصطفى سعيد.

رغم نخبوية هذه الأعمال التي ذكرناها لكن الكلام واللحن لم يكونا لمجرد السباب أو توزيع المشاعر بل عبارة عن تجربة مولودة من نبض الشارع.

الأغنية الثورية السورية

في سوريا عندما بدأت الثورة عام 2011 بشكل غير تقليدي كما حصل في باقي الدول، حيث انطلقت المطالبات بشكل واضح وللعلن من الأرياف ومن مدن لم نكن نعتقد أنها ستطلق هذه الشرارة بسبب ظروفها الموضوعية وقتها، وبعد الأحداث العاصفة التي بدأت في درعا وحوران عامة انطلقت المظاهرات بمطالبها المعروفة وتلونت بأهازيج من التراث الغنائي مع تغيير الكلام بالمطالب لكن على الألحان التراثية.

ثم عمت في معظم أنحاء البلاد على نفس المنوال إلى أن تحولت لاحقا كردة فعل على الظلم والقسوة إلى سباب مباشر وهذه الحال مفهومة لكن من غير المفهوم أخذ الأصوات التي كانت تغني في المظاهرات كأيقونات فنية، فاللحن لبعض الأغاني التي تغنى بها البعض في المظاهرات أخذت شكلا لطميا لا يشبه عادات شعبنا وعلى مقامات ليست من بيئة المجتمع التراثية بل كانت تشبه الحالة العاشورائية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تم تركيب الكلام على ألحان أغاني تجارية تركية وفي بعضها على أغاني عراقية لطمية حديثة والطامة الكبرى كانت بأخذ ألحان من أغاني الديك إخوان وتركيب كلام عليها من واقع المناطق، طبعا ناهيك عن الأصوات التي لا تمت للغناء بصلة، لكن بسبب العاطفة وردة الفعل النفسية المبررة برأيي أصبحوا أيقونة ومحطا للسمع في الجلسات والسهرات، علما أن هذه التجارب هي وليدة المرحلة ولا تدوم، مع الإشارة إلى أن التبرير للحالة التي ذكرنا موجود ومباح بسبب نوم النخبة الثقافية والفنية الموسيقية في العسل نومة أهل الكهف.

فلو نظرنا ومنذ البداية إلى تجربة الفنان السوري سميح شقير على سبيل المثال في عدة أعمال لحنها بعد 2011 نجد أن الكلام يسبق اللحن بأشواط في ملامسة واقع المواطن السوري المظلوم وفي بعض الأحيان تارة يكون اللحن مباشرا وفجا بالحزن وكأن النيزك قد اقترب من الأرض ونهاية العالم أصبحت قاب قوسين.

وتارة يكون الكلام يخص القضية السورية ويعبر عن الواقع  لكن اللحن يعبر عن ما يجول في السودان أو الصومال الشقيق.

يتحجج العاملون في الشأن الثوري موسيقيا بغياب الإمكانات المادية وهذا غير صحيح، فبعد مرور هذه السنوات على وجود معظمهم خارج البلاد للأسباب المعروفة أصبحت حياتهم أسهل في أخذ المنح وأصبح الدعم المادي لإبداع الشباب السوري متاحا.

فمن المستغرب والمعيب أن تستعمل هذه الطبقة المخملية الموسيقية التي تعيش في أوروبا وتريات "الأورغ" في عمل للذكرى العاشرة للثورة السورية، بينما هناك مئات العازفين السوريين المهتمين بالمشاركة لم يستدعوا مثلا.

رحم الله أيام سيد درويش وأغنيته "أهو دا اللي صار" و"شد الحزام على وسطك غيرو ما يفيدك" والإرث الفني الذي تركه فكريا وموسيقيا.

ورحم الله الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وأيام أغاني شيد قصورك وإذا الشمس غرقت والخط دا خطي، ورحم الله أيام العطاء الفكري الخالي من الابتذال، ويبقى العتب بعد مرور الزمن على مستسهلي الفن الثوري فلو قارنا بين ظروف السابقين وظروفنا لشعرنا بالخجل من هتك عرض الأغنية الملتزمة وإجحافنا حقها وتقصيرنا في إبداع شيء يواكب ظروف أحداث الألفية الثالثة فالثقل الديمغرافي للشام ومصر يستحق إكمال مسيرة العظماء على الأقل ليرتاحوا في قبورهم ويطمئنوا على مصير ما بدؤوا به.