الأصل والفرع

2020.05.20 | 00:03 دمشق

marco1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تشهد الحقبة المعاصرة في مجتمعاتنا المنقسمة والمجزأة بفعل فاعل، ربما كان خارجياً والغالب أنه الآن محلي، نقاشات ليست كالنقاشات، لما يُميّز معظمها من حمولة تكفيرية وعنفية وإقصائية، حول الانتماء الديني والإثني والمذهبي والمناطقي وسواها من العناصر المعزّزة للانقسام والتباعد والتنافر. ولا يغيب عن القاصي والداني ما يحفّزه هذا المنطق من تعظيم التمسك الأعمى تطرفاً بحقيقة اعتبر كل منا أنها هي الحقيقة المطلقة، دون أية جرعة، ولو ضئيلة، من النسبية ومن التردد في القطع بصحتّها ورفض الجدل حولها. وقلّما اجتمع شخصان في حلقة نقاش حول أصول الأمور والأشياء، من لغات وعادات وأديان وعروق ومذاهب ومقامات موسيقية، إلخ..  إلا وكان الخلاف، العنيف غالباً، ثالثهما وبإصرار. وحيث إنه يمكن الاعتقاد، مع بعض التردد، بأن كثيرا من المجتمعات المتقدمة قد تجاوزت هذه "الجزئيات"، على الرغم من حقيقة وجود ردّة شعبوية وقومية ومتطرفة في أجزاء منها، وهي مرشحة للتفاقم في ضوء الأزمات الأخيرة، فإنه، وحتى إشعار آخر ربما اقترب موعده، فيبدو أن الأمر وكأنه محصور بأهل الشرق خصوصاً.

توصل العلماء إلى نفي مرجعية المعكرونة، إلى الصين، حيث كان من المتعارف عليه أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو قد أتى بها إلى مدينة البندقية من هناك.

في دراسة حديثة نشرتها إحدى الدوريات الصينية، توصل العلماء إلى نفي مرجعية المعكرونة، إلى الصين، حيث كان من المتعارف عليه أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو قد أتى بها إلى مدينة البندقية في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي بعد مكوثه لفترة طويلة في الصين. وقد تبين للمؤرخين وعلماء الآثار من الصينيين والإيطاليين وغيرهم، بأنها وجدت، وتحت تنويعات عدة، في روما القديمة أساساً، أي في ظل الإمبراطورية الرومانية قبل حقبة طويلة من دخولها إلى الصين. ولا ضير للعلماء، والعالم هو الباحث الدائم عما يقرّبه من الحقيقة دون ادعاء امتلاك للحقيقة المطلقة، في أن يتوصلوا في المستقبل، نتيجة الاستمرار في البحث، إلى أصول مختلفة للمعكرونة جغرافياً وإثنياً. وربما يبدو هذا الاكتشاف هامشياً في أهميته للبعض أمام ما يعتري حيواتنا اليومية من مصائب لم تساعد بعد الاكتشافات العلمية في الحد من تدميرها لنا، إلا أن هذا التهميش يبقى خياراً ذاتياً لأن العلم في هذه الأمور والعمل عليها بجدية ومثابرة يشير إلى رغبة واعية في كسر المتجمّد من المعارف وتحفيز السعي الدائم لنقض ما هو محسوم فيه بالنسبة للبعض في كافة المجالات التي يسمح فيها العلم بالاجتهاد والتقدم، وهي هائلة.

في فيلم "مقامات المسرة" للمخرج محمد ملص والذي سخّره للمطرب الراحل الشيخ صبري مدلل، مشهد لافت يزور فيه المطرب / الشيخ كنيسة سريانية حيث يستقبله شيخ الموسيقيين الحلبيين نوري إسكندر ليسمعه بعضاً من التراتيل السريانية. وفي بداية المشهد، يُعلم إسكندر، مع ابتسامة، صديقه صبري مدلل بأنه سيفاجئه بلفتة، لتكون هذه المفاجأة هي إسماعه لحناً كنسياً هو في نغمته أصل أنشودة دينية إسلامية. ويردد الشيخ المطرب اللحن منتشياً ويؤكد بإيماءة رأسه بأنه موافق على نسبة أنشودة دينية ما فتئ يرددها في المساجد وفي الحلقات الدينية إلى لحن سرياني كنسي قديم. والشيخ العارف بأمور دينه، مقتنع إذاً بالتأثر المتبادل بين الثقافات ولا يتخندق في انتماء أعمى يرفض من خلاله نسبة ألحانه الإيمانية إلى عقيدة مختلفة عن عقيدته، وحيث أراد الكثيرون، وما زالوا، أن تكون مُخالفة لها.

وفي إطار الانفتاح على تحديد الأصول، لا نجرؤ على الحديث عن تحديد موعد نهائي لا عودة عنه، يتم البحث الجاد في مناهج العلوم وليس في الاعتقاد الذاتي أو المتوارث فقط، حيث يُظهر كثير من المؤرخين الإسبان علماً رفيعاً وحرفة متطورة في أصول البحث العلمي، وذلك من خلال تحديد بعض الأصول العربية للكثير من الكلمات الإسبانية التي ارتبط بها تراث هذا البلد، مثل (الفلامينكو: فلاح منكوب، فيريا: الفرح...)، مُشيرين الى أن حقبة الأندلس التي امتدت لقرون صارت جزءاً أساسياً من الذاكرة الإسبانية الوطنية التراكمية. وهم بذلك لا يجدون أي ضرر يُذكر في ذلك، ولا انتقاص من إسبانية موطنهم أو أندلسيته، فلا حاجة بالتالي أبداً لتعديل التعابير ذات الأصول العربية ـ أو البربرية ـ وجعلها لاتينية التركيب، أو حتى لتغيير أسماء المدن والقرى الأندلسية (بني الغالبون، الخروب، بني العارفون، الوادي الكبير.. الخ..) وجعلها مستمدة من قاموس قومي أعمى.

وصل التفتت بالبعض لدينا إلى الخلاف والاختلاف حول أصول الأطباق الغذائية والتأكيد المطلق على نسب كل بلد، أو مدينة، أو ربما حي، لنفسه أولوية اختراع العجلة المطبخية.

مؤخراً، وصل التفتت بالبعض لدينا إلى الخلاف والاختلاف حول أصول الأطباق الغذائية والتأكيد المطلق على نسب كل بلد، أو مدينة، أو ربما حي، لنفسه أولوية اختراع العجلة المطبخية. وربما يعتبر البعض أن في هذا التمسك حقاً وطنياً يراد من خلاله إثبات مشروعية منتهكة، كما يتمسك الفلسطينيون عن حق بتراثهم الغذائي الذي هو جزءٌ من كُلّ، يسعى المحتل إلى أن يسرقه، ويدخل هذا الموقف في إطار أوسع للتشبث بالانتماء إلى ما يحاول الغاصبون اقتلاعه أو تشويهه. أما أن نعمد إلى الحفر عميقاً في الهوة الموجودة أصلاً، بفضل المستعمر أو المستبد، والتي تقسّم مجتمعاتنا إثنياً ودينياً ومذهبياً ومناطقياً، فهو إثبات لا شك فيه على انتصارنا في عجزنا.

كلمات مفتاحية