"الأتراك خائفون" السوريون أيضاً

2022.01.06 | 06:03 دمشق

umit-ozdag-1603837.jpg
+A
حجم الخط
-A

"نعمل حالياً على صياغة معاهدة شرف، تنص على إلزام الأحزاب، أن لا تقوم باجتذاب أصوات الناخبين على حساب الأجانب والأقليات، عبر إثارة النعرات العنصرية في حملاتها الانتخابية". كان هذا جزء من بيان أصدرته منظمة الجالية التركية في ألمانيا "TGD" بتاريخ 29-2-2008. يومها صرح السيد "كينان كولات" رئيس المنظمة بأن "الأتراك خائفون". أجل كان الأتراك خائفين، إثر موجة عنف طالتهم في العديد من المدن الألمانية، تم خلالها إحراق سبعة عشر منزلاً لعائلات من أصول تركية خلال شهر واحد، أخطرها كان حريقاً لمنزل في مدينة "لودفيغسهافن" قضى فيه تسعة أتراك منهم خمسة أطفال. تلك الحرائق أعادت للأتراك ذكرى الحادث الشهير الذي وقع عام 1993 في مدينة "زولينغن" بولاية شمال الراين، حيث أشعل أربعة شبّان ألمان، ينتمون إلى النازيين الجدد، النار بمنزل عائلة "جينش" التركية، توفيت خلاله ثلاث فتيات وامرأتان، وأصيب أربعة عشر من أفراد الأسرة. الأسوأ كانت إصابة الفتى "بكير جينش" الذي ما زال إلى الآن يضع قناعاً على وجهه بعد خضوعه لعشرين عملية تجميل. اليوم، بعد أن اختفى المنزل رقم (79) في شارع فرنر بمدينة زولينغن، تنتصب مكانه خمس أشجار كستناء تحمل أسماء الضحايا وتخلّد ذكراهنّ. وفي كل يوم قد يصادف المارّة في الشارع السيدة العجوز "مولودة جينش" تتفقد المكان، حيث فقدت ابنتها وابنتي شقيقها وحفيدتين.

ولكن، لماذا أستعيد هنا تلك القصص عن الأتراك ضحايا العنصرية في ألمانيا؟ الحقيقة إنما أفعل ذلك لأتحدث عن "أوميت أوزداغ". لماذا أوزداغ تحديداً؟ ستعلمون بعد عدّة أسطر. لو فكر أوزداغ قليلاً بعيداً عن الروح العنصرية التي تتلبسه، قد يكتشف أنه كان واحداً من الأسباب التي دفعت مواطناً تركياً، ليقدِم على إحراق ثلاثة شبان سوريين في مدينة إزمير شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. الحريق الذي أدى إلى تفحّم جثثهم كما حدث لعائلة "جينش" التركية تماماً. أوزداغ ليس الوحيد الذي يدلي بتصريحات عنصرية، وتنمّ عن الكراهية. هناك عديدون غيره من منتسبي الحزب الذي يرأسه "حزب النصر"، ومن حزب "الجيّد" وكذا من "حزب الشعب الجمهوري". المطمئن إلى حدٍّ ما في الأمر، أن أعداد هؤلاء ليست كثيرة في المجتمع التركي، والمقلق أن أصواتهم عالية، وتلقى تجاوباً بدا ملحوظاً في العامين الأخيرين.

قبل نحو 130 عاماً غادر جدّي "المباشر"، وكان فتى في السابعة عشر من عمره، برفقة أبيه قريتهم "بحكلا" في مناطق "غازي قوموق" الداغستانية، متوجهين نحو تركيّا، خاضا مع غيرهم البحر الأسود، في سفن ومراكب متهالكة، حتى وصلوا إلى وجهتهم الجديدة. في تلك الفترة شهدت مناطق القفقاس عموماً عملية نزوح وتهجير قسري على يد السلطات الروسية القيصرية. مئات الآلاف هجروا أوطانهم ولم يعودوا إليها. إن كانت وقائع هذا التهجير وتفاصيله مجهولة، ولا تلقى الاهتمام العالمي، كغيرها من القضايا المشابهة، فإن المجتمع التركي، الذي حظي بالعدد الأكبر من ضحايا ذاك التهجير، يعرف عنها الكثير، حيث غدت تركيا وطناً بديلاً لأولئك المهجرين. يقدر الباحثون عدد الشركس والداغستان والشيشان في تركيا اليوم بين مليونين وثلاثة ملايين مواطن.

أقام جدي مع أبيه سنتين في تركيا، ثم قررا المتابعة باتجاه سوريا. في سوريا لقي المهاجرون في تلك الفترة احتضاناً جيداً في كل مكان أقاموا فيه، أو وزعتهم عليه السلطات العثمانية. بعد جيلين كان من سوء الحظ أن تغيّرت الظروف السياسية، ولقي السوريون جميعاً بعد تسلّم الأسد ما لقوه، ومن بينهم كل الأقليات التي أفضت بها الظروف لتكون سوريا هي وطنها البديل. بعد ثورة السوريين عام 2011 ضد نظام الابن الوريث. وجد الآلاف من أحفاد المهجرين القفقاس أنفسهم موزعين على بلدان لجوء جديدة، مع غيرهم من ملايين السوريين. ثانية كان لتركيا الحصة الأكبر منهم.

أتابع منذ ثلاث سنوات تقريباً تصريحات أوزداغ، وكان أول ما عرفت باسمه، حين روَّج عام 2018، (لم يكن قد طُرد من حزب "الجيد" بعد)، مقطع فيديو لسوريّ يهدد طفلاً بسلاح أبيض. سيتبين لاحقاً أن المقطع يعود لعام 2014 وهو ليس للاجئ سوري كما ادعى البرلماني التركي، حامل شهادة الدكتوراه والأستاذ في الجامعات التركية. بعدها بدأت أتابع تصريحاته كلما صادفني اسمه في خبر ما. ليرتبط اسمه في ذهني، وأذهان معظم السوريين كما أخمّن، بحالة قصووية من خطاب الكراهية والعنصرية ضد السوريين، واللاجئين عموماً. عام 2019، بعد نشره لعدة تغريدات بشكل يومي ضد السوريين، معظمها يستند إلى شائعات وأخبار ملفقة، سيدعو وزير الداخلية التركي "سليمان صويلو" حزب "الجيَد" لكف يد نائبهم عن ملاحقة السوريين، موصياً إياهم بإخضاعه للعلاج. في شهر تشرين ثاني/نوفمبر الماضي، وخلال افتتاح أوزداغ مقراً جديداً لحزبه تحت شعار "لا نريد السوريين في بلدنا"، دعا إلى جمع عشرة ملايين توقيع لطرد السوريين، مضيفاً: "لا يمكن لأحد جعل الأناضول، موطن الأمة التركية، مركزاً للهجرة، الأمر الذي سيؤدي إلى دمار الأمة التركية".

قبل أسبوع ما كان ليخطر ببالي أنني سأكتب يوماً مادة عن هذا الرجل، خصوصاً أن لدي طمأنينة إلى حدٍّ ما، لناحية عموم المجتمع الأهلي التركي بالغ التنوّع. خلال الأسبوع الماضي سأطلع مصادفة على معلومة تفيد بأن الرجل من أصول "داغستانية" بل وأكثر من ذلك، هو من "اللاك"، وأنا أيضاً منهم. ينتمي إلى عائلة هاجرت من مناطق"غازي قوموق" في داغستان إلى تركيا قبل 130 عاماً. بداية لم أصدق، ليس لأني هتفت "يا للهول، إنه من أبناء العمومة" (مقتضيات النشر اضطرتني لتهذيب جملتي الأصل)، ولكن لأنني لم أستطع التخيل أن إنساناً، مطلق إنسان، من أصول مهاجرة، يمكن له أن يتخذ مثل تلك المواقف من مهجرين جدد، حتى لو كان بذاكرة سمكة. تابعت المعلومة عبر "الإنترنت":  "أوميت أوزداغ، أصله من القوموق ووطنهم  الأصل داغستان. ولد في طوكيو بتاريخ 3 مارس 1961، والده مظفر أوزداغ المولود في بينار باشي بولاية قيصري، الأب شارك بانقلاب 1960". لم أركن للمعلومة، فأنا أرتاب بمعلومات "ويكيبيديا" المفتوحة. تواصلت مع صديقة شركسية سورية تقيم في إسطنبول منذ أكثر من 20 عاماً، وهي منخرطة بالمجتمع التركي، والشركسي على وجه الخصوص، فأكّدت المعلومة، بعد تواصلها مع مجموعات شركسية تركية، مع ملاحظة تفيد بأن لا علاقة له بقضايا القفقاس بتاتا، ولا بأي من مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

كان يمكن أن أختم مادتي عند هذا الحد، لكن كيف أستطيع مقاومة ما يخطر ببالي من الأسئلة والأفكار. هل يحتمل أن جدي وجد أوزداغ كانا أبناء عمومة؟ أمر غير مستبعد، ولو أنني أحاول طرد الفكرة من رأسي، كي لا تزداد المُشتركات. هل غادرا جبال أسلافهما معاً، ومشيا الدروب نفسها؟ هل يمكن أنهما عبرا البحر الأسود، الذي ابتلع عشرات آلاف القفقاسيين، على متن القارب ذاته؟ شراكسة تركيا حتى اليوم لا يأكلون سمك البحر الأسود، الذي تغذّى على لحوم أجدادهم. لم يكن جدّانا أوزداغ وأنا، من هواة السياحة، ولم يكونا يبحثان عن وضع اقتصادي أفضل. لقد غادرا هرباً بعائلتيهما من الموت. وكان نصيب أوميت أنه لم يضطر للهرب ثانية من موت جديد، بينما اضطررت أنا. وبينما كنت أقبع في سجون حافظ الأسد لسنوات، كان أوزداغ الابن يتابع دراسته لنيل درجة الدكتوراه. هل سيصدقني لو قلت له، أنه كان بإمكاني طلب اللجوء السياسي إلى أي بلد غربي، كمعتقل رأي، بعد خروجي من السجن أواسط تسعينيات القرن الماضي، ولكني لم أفعل؟ فعلتها، ولجأت عام 2012 كمعظم السوريين، حين ازدادت احتمالات أن أقضي مع عائلتي تحت قصف قوات الأسد، بكل أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي، أو أن أكون صورة في مجموعة صور "قيصر" لمن قضوا تحت التعذيب في سجون بشار الأسد. بإمكاني التقدير أن أوزداغ لا يصدق صور ضحايانا. كارثة أكبر لو كان يصدقها، ويريد ترحيل السوريين! هل يعتقد الرجل أنه محق، ويقف في الجانب الصحيح من التاريخ؟ لمَ لا، هتلر وستالين، وحتى تجار الرقيق، كان لديهم هذا الظن.

أوزداغ وأنا بدأت سيرتنا العائلية متطابقة، مع ما لحق من ظلم كبير بأجدادنا، فلمَ افترقنا على هذا النحو المريع، ووقفنا اليوم في جبهتين متقابلتين في هذه النهايات؟ لم أجد أي جواب. فقط تخيلت نفسي، لوهلةٍ الآن، أتبرّم ممن لجأ إلى سوريا بعد أجدادي. كم كنت سأبدو ركيكاً عديم الأخلاق، ومفتقداً للحس البشريّ السليم. السيد أوزداغ من حقك الأكيد أن تكون تركياً، بعد مضي أكثر من قرن على وصول أجدادك إلى هنا. أنا مثلك كنت أشعر هكذا، وانخرطتُ إلى أقصى حدٍّ بالهمّ الوطني السوري، مع تحييد تام لانتمائي العرقي الأصل، ودفعت من أجل أنني سوري تسع سنوات في سجن الديكتاتور، وتالياً، تهجيري الجديد. لكن ليس من حقنا أنت وأنا أن نكون بلا ذاكرة، والأهم بلا أخلاق! عام 2008، كان الأتراك خائفين من النازيين الجدد في ألمانيا. اليوم، السوريون خائفون منك وممن يشبهونك في تركيا. ألف لعنة يا ابن العم.