اغتيال الهاشمي وحلم استعادة العراق

2020.07.17 | 00:00 دمشق

000_1us1ae_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحيلنا حادث اغتيال هشام عبد الجبار الهاشمي المؤرخ والباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية العراقية، إلى عشرات شهداء الكلمة والرأي في حياتنا المعاصرة، ولدى استعراض معظم أسماء الذين قضوا اغتيالاً في العقود الأخيرة نجدهم ممن يعوَّل عليهم في تنمية بلدانهم وارتقائها إذ يقدمون رؤية مستقبلية تتماهى مع حركة الحياة ونموها، ويتوقف عليها نهوض الشعب والدولة في منعطفات حرجة.

ولعلَّ لبنان وسوريا والعراق ومصر قد طالتها يد الاغتيالات أكثر من غيرها وقد كانت لبنان الأسبق والأكثر عدداً بالمغدورين ومن هؤلاء: مهدي عامل، وحسين مروة، وكمال جنبلاط، ورفيق الحريري، وسمير القصير، وجورج حاوي، وآخرون كثر. وجرى ذلك في خضم صعود الحركة الوطنية اللبنانية المتماهية مع نضال الشعب الفلسطيني. والغاية هي الالتفاف عليها ولجمها إذ ترافقت الاغتيالات اللبنانية باغتيال شخصيات فلسطينية بارزة على صعيدي الثقافة والسياسة أيضاً. وبعد ذلك جاء اغتيال المفكر المصري فرج فودة عام 1992 ليشكل حالة استثنائية، إذ اغتاله شاب أمي يجهل القراءة والكتابة، بعد أشهر من مناظرة علنية بينه وبين قوى إسلامية، ثمَّ لتأتي محاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ الفاشلة من شاب مماثل.

وبعد ذلك شهدت سوريا اغتيالات كان لها لون آخر، فمعظمها جرى بمعرفة النظام، وعلى أيدي أذرعه الطويلة التي أخذت تقطع رأس كل من عرف أكثر مما يجب عن أسرار الدولة وجرائمها وأول من طالت رجال المخابرات أنفسهم إذ كانوا شهوداً على جرائم محددة، فاغتيل على سبيل المثال العميد محمد سليمان المستشار الأمني لبشار الأسد، واغتيل محمود الزعبي وغازي كنعان، ومع بدء احتدام الصراع في سوريا واختلاف وجهات النظر حول الحلول المقترحة اغتيل ما عرف بـ (خلية الأزمة) وكلها أسماء تمثل الحلقة العليا من أركان النظام السوري. وبعد فترة تم اغتيال اللواءين رستم غزالة وجامع جامع.. إلخ

وأقل ما يقال في هذه الاغتيالات أن مرتكبيها سواء كانوا ميليشيات أم أنظمة، فهي ظلامية الرؤية مهزومة أمام العقل والحضارة، والمحاكم الدولية، وغياب القوانين في بلدان الاغتيال وحلول "البلطجة" السياسية

وأقل ما يقال في هذه الاغتيالات أن مرتكبيها سواء كانوا ميليشيات أم أنظمة، فهي ظلامية الرؤية مهزومة أمام العقل والحضارة، والمحاكم الدولية، وغياب القوانين في بلدان الاغتيال وحلول "البلطجة" السياسية إذ لا يجد بعضهم من وسيلة أمامه غير العنف أسلوباً وحيداً لفرض نفوذه وسيطرته..!

أما حدث اغتيال هشام الهاشمي فلعله يجسد خلاصة ما تعرَّض له العراق خلال العقود الثلاثة وما آل إليه من طرق مسدودة فالهاشمي الشاب خبير بشؤون القوى الظلامية يمتلك معلومات غنية عنها وهو متابع للجماعات الإسلامية العراقية منذ العام 1997، وقد عَمِل في تحقيق المخطوطات التراثية الفقهية، واغتيل بعد تهديد مباشر ومتكرر من أحد منتسبي كتائب حزب الله العراقي ويدعى: "أبو علي العسكري"، واسمه الحقيقي "حسين مؤنس" وكان مؤنس قد توعّده بقوله "سوف أقتلك في بيتك". وبالفعل جرى ذلك وهو داخل سيارته أمامَ بيته مساء 6 يوليو 2020.

يتحدث الكاتب والأديب الفلسطيني/الأردني محمود الريماوي في مقالة نشرتها العربي الجديد عن الهاشمي فيشير إلى بروز نجمه "باحثاً وخبيراً في الجماعات المسلحة، ابتداءً من تنظيمي القاعدة، والدولة الإسلامية (داعش). وقد أسهمت تقاريره المقدّمة إلى الدولة العراقية في الكشف عن خبايا هذين التنظيمين الإرهابيين، وفي الإيقاع بكثيرين من القادة والخلايا الخطرة. وهو ما أوغر صدور متزعمي التنظيمين على الباحث الشاب الذي كان وظلَّ، حتى الرمق الأخير (مساء الإثنين 7 يوليو/ تموز الجاري) ينافح عن حق العراقيين في دولةٍ وطنيةٍ مستقلة، تحوز فيها المؤسسة العسكرية وحدها السلاح وحق استخدامه وفق القوانين.."

نعم لقد جسد هشام الهاشمي بما يمتلكه من معلومات وتجربة عميقة، وهو الذي أنشأ في بداية حياته بالسياسة علاقات مع تنظيمات متطرفة تنتسب إلى الإسلام السياسي وغادرها ليتخصص في الأعمال الفكرية والبحثية في إطار وطن عراقي مستقل. وتكثف سعيه في السنوات الأخيرة على استعادة الدولة المختطفة سواء إلى جهات طائفية ترتبط بإيران مباشرة أو بأخرى لها علاقات بأميركا اللتين استنزفتا العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة، بواسطة فئات تسربلت بالطائفية فأوصلت العراق وشعبه حدَّ الجوع ناهيكم بالتهجير الذي ناهز أربعة الملايين شملت عموم العراقيين ومن بينهم خبراء ومثقفون وخريجون في مجالات علمية مهمة إضافة إلى ما يمس نسيج العراق السكاني المنطوي على التعدد الديني والقومي تؤكد أصالة العراق وانتماءه إلى أوائل حضارات العالم.

وأخيراً، ومن خلال ما تقدم ومن دم هشام عبد القادر الهاشمي المراق على مذبح حرية العراق واستعادة دولته الحرة المستقلة يمكن استنتاج ما يلي:

أولاً: إن دم الهاشمي يجسد روح المظاهرات الشعبية العراقية التي استمرت على مدى العام 2019 وأوائل 2020 رغم جائحة كورونا وطالبت باستعادة الدولة المختطفة، وفضحت أركانها ولصوصها، والأوضاع المزرية التي وصل إليها الشعب العراقي، وأرعبت شعاراتها التي التف حولها ألوان من نسيج الشعب العراقي إذ تبنت ما يطمح إليه الهاشمي ويردده على الفضائيات وأمام الشعب العراقي وممثليه في الحكومة ومجلس الشعب والأحزاب السياسية.

إن دم الهاشمي يجسد روح المظاهرات الشعبية العراقية التي استمرت على مدى العام 2019 وأوائل 2020 رغم جائحة كورونا وطالبت باستعادة الدولة المختطفة

ثانياُ: إن المتمعِّن في الاغتيالات التي مرَّ ذكرها يلاحظ أنها جرت بعد قيام ثورة ولاية الفقيه الإسلامية الإيرانية، وأن معظم الاغتيالات اللبنانية، إن لم أقل كلها، نفَّذها حزب الله الذي يأتمر بأمر ولي الفقيه في إيران بحسب أمينه العام.. وقد نفذت بمعرفة النظام السوري.

ثالثاً: إن كثيرا من الوثائق التي يعرفها الهاشمي تشير إلى العلاقات الوثيقة بين إيران وتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ناهيكم بالميليشيات المتعددة في العراق تحت مسميات مختلفة ومن بينها الميليشيا التي اغتالته.

يؤكد الدكتور العراقي فراس إلياس أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في العراق الروابط الوثيقة بين تنظيم داعش وإيران، ويستدل على ذلك بما كشفته صفقة نقل عناصر تنظيم داعش من القلمون الغربي في الحدود اللبنانية السورية، إلى مدينة دير الزور على الحدود العراقية السورية، في 29 من أغسطس 2017، فإيران وعلى الرغم من رفعها شعار محاربة داعش في الشرق الأوسط، إلا أنها لم تدخل في أية مواجهة عسكرية مسلحة مباشرة مع عناصر هذا التنظيم، وكل ما يحصل هو مواجهات غير مباشرة بأدوات عراقية سورية لبنانية.. بينما أشارت قناة الحرة إلى أن داعش عبَّرت من خلال "قريش" وسيلة إعلامية خاصة بها عن ارتياحها لعملية اغتيال الهاشمي..!

رابعاً وأخيراً: تؤكد عملية الاغتيالات أن لا دول شرعية في لبنان وسوريا والعراق بل ثمة جماعة واحدة تحكم أو عدة جماعات توافقت على النهب واللصوصية وتقاسم الحصص والنفوذ ورهن الأوطان للخارج لكن شعوب تلك البلاد لم تعد غافلة، يؤكد هذه الحقيقة تلك الهبات الشعبية المتلاحقة في المنطقة وما تقدمه شعوب المنطقة من تضحيات جمة، وقد تكون كورونا قد حالت دون مراد الشعب لكنها في الوقت نفسه زادت من سوء الأحوال التي ستقود بالضرورة إلى انفجار أخير يأخذ بزمام الأمور وصولاً إلى حرية شعوب هذه البلدان المتلاصقة والمستهدفة معاً وبناء دولة الديمقراطية المنشودة والدخول إلى عالم الحضارة بعيداً عن أشكال الطائفية وألوان المحاصصة السياسية التي تعود في جوهرها إلى نظام الأسرة والقبلية وعقلية الزعيم والمختار التي تجاوزها الزمن.