اعترافات بشار الأسد.. قراءة موازية في مرسوم العفو

2022.05.13 | 07:22 دمشق

مجزرة التضامن
+A
حجم الخط
-A

إن لم يكن ثمة أية أسباب للثورة في سوريا، فيكفي مرسوم العفو الأخير سبباً جوهرياً لها، ليس فقط بسبب سخريته من السوريين والتلاعب بهم ورقصه على عذاباتهم وفوق جثث ضحاياهم، بل لسبب يعود إلى ما هو أبعد بكثير.

إن تعاملنا مع مرسوم العفو على أنه مجرد كذبة سياسية وتحايل وحدث زائف يمكن مناقشته ونقد تفاصيله والسخرية منه، أو أنه مجرد رد على مجزرة التضامن للتخفيف من تبعاتها على رأس النظام، فسوف نحقق ما يريده الوريث وما يصبو إليه، ونكون من جديد ضحايا الفخ الذي يريد أن يجرنا إليه، فهذا المرسوم لا يمكن التعامل معه إلاّ على أنه دليل إثبات على ما هو أكبر من مجرد جرائم ضد الإنسانية، وأبعد من مجرد دعاية لرأس النظام..

ثمة توجه ملحوظ يحاول النظام في سوريا ترسيخه والتعامل معه على أنه واقع، وهو فكرة "تأليه الرئيس" استناداً إلى فكرة تبدو في ظاهرها إنسانية بحتة وهي فكرة العفو والصفح.

ويمكن إثبات ذلك النزوع إلى تأليه الرئيس من خلال مجمل الخطاب الذي فرضته الأجهزة الأمنية على السوريين منذ بداية الثورة، حيث أطلقت تلك الأجهزة تسمية "سيد الوطن" على بشار الأسد لتأكيد تلك الفكرة بالقوة وإجبار السوريين على قبولها والرضا بتصنيفهم كعبيد لذلك السيد، كما تم اعتماد كلمة "الرمز" على بشار الأسد بشكل تجاوز فكرة القائد الرمز التي تم إطلاقها على أبيه، ودأب رجال الدين المقربون من السلطة على المقارنة صراحة بين بشار الأسد والأنبياء، ثم بينه وبين الإله، بعد أن كانت تتم مداورة في عهد الأب، في محاولة مفضوحة وصفيقة لإضفاء صفة "الذات" على الرئيس وسلخه عن مرتبة البشر ليحتل مكان الآلهة..

كما أن تسلسل الأهمية (الله وسوريا وبشار) والذي ساد كشعار للمسيرات المؤيدة منذ العام 2011، قد انقلب الآن ليتم التركيز فقط على "بشار"، وإسقاط ما عداه في معادلة الأهمية

كما أن تسلسل الأهمية (الله وسوريا وبشار) والذي ساد كشعار للمسيرات المؤيدة منذ العام 2011، قد انقلب الآن ليتم التركيز فقط على "بشار"، وإسقاط ما عداه في معادلة الأهمية..

ومن هنا لا تتوقف فكرة العفو عند حدود تصدير صورة الرئيس المتسامح، المحب، الحريص على وطنه ومواطنيه وعلى مفهومي الصلح والسلم فحسب، بل تمتد لتؤكد ذات التوجه وترسيخ فكرة "الألوهية" التي ابتدأت مع حالات العنف الشديد التي اعتُمدت في موجات الاعتقال الأولى، حيث كثيراً ما سرب النظام فيديوهات لحالات تعذيب المعتقلين وهم يُسألون: "مين ربك ولاه، قول ربي بشار الأسد…إلخ"، وهو ما يصب في ذات الهدف الذي يسعى إليه النظام..

في هذا الإطار وحده يمكن أن نفك أحد أهم رموز الرسالة المشفرة التي يحملها قرار العفو، صحيح أن ثمة رسائل أخرى أهمها تأكيد الرئيس على أنه ما يزال ممسكاً بقرار حياة السوريين وموتهم، وتأكيد هيمنته المطلقة سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وإعلاء انتصاره، ولكن البعد الآخر والمتضمن فكرة التأليه لا يجب أن يغيب عنا، والهدف من ذلك ليس خنق الثورة وحسب، بل قطع دابر التفكير في التمرد على الرئيس وسلالته من بعده أيضاً، وبحيث يعود الحكم الأبدي ليكون إحدى البديهيات غير القابلة للجدل في قادمات الأيام، ولا سيما أن الأسد وأتباعه باتوا اليوم على يقين من قدرتهم على تأسيس سلالة حاكمة يكون أهم شروطها وأركانها تثبيت صفة الألوهية على تلك السلالة ونزع كل صفات البشر عنها، في محاكاة واضحة لتجربة السلالة الحاكمة في كوريا الشمالية..

لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لنعرف أن مفهوم العفو يحيل إلى شأن شخصي لا علاقة له بالسياسة، فأن تعفو عن أحد يعني بالضرورة أن تسامحه بعد أن ارتكب خطأً شخصياً بحقك، فمن يخرج من المعتقل بعفو من الرئيس يعني بالضرورة أنه دخل المعتقل بسبب غضب الرئيس عليه، وفي المرسوم الأخير الخاص بالعفو اعتراف بأن المعفوّ عنهم هم أولئك الذين غضب منهم الرئيس حينما أعلنوا رفضهم له، فتم اعتقالهم بسبب إساءتهم للذات الرئاسية لا بسبب أذية للوطن، أرادهم الرئيس مدانين فتمت إدانتهم، أرادهم الرئيس إرهابيين، فتم لصق تلك التهمة بهم، ثم قرر الصفح عنهم، فكان قرار العفو، والذي رغم كل كذبه وزيفه وابتزازه للسوريين، ما هو إلا صفح شخصي عن تلك "الإساءات"، الأمر الذي ينفي أي بعد وطني أو سياسي عن الاعتقالات والعفو معاً، وهو ما يؤكد شخصنة الموضوع برمته وإحالته إلى مزاجية الرئيس، الأمر الذي يبرئ المعتقلين ويدين من اعتقلهم.

وبصرف النظر عن تفاصيل المرسوم الذي أصدره الجلاد بحق ضحاياه، وبصرف النظر عن المشهد الذي أعقب صدور القرار، والذي تجمع فيه الآلاف ممن لهم مفقودون ينتظرون خبراً عنهم منذ سنوات طوال، وبصرف النظر عن أن قرار العفو بحد ذاته كان  شاهد إثبات على المجرم والإرهابي الفعلي الذي ارتكب جريمة العصر بحق السوريين وما يزال، فإن اللغم النفسي الذي يحاول  النظام زرعه في قلوب السوريين وعقولهم، سيكون واضحاً تماماً لكل من يحاكم المشهد محاكمة عقلية بعيداً عن العواطف والانفعالات والمشاعر الجياشة..

يكاد الرئيس يقول خذوني، هذا هو حال بشار الأسد بعد مرسوم العفو، لا علاقة وثيقة لتوقيت إصدار المرسوم بالفيديو الذي تم تداوله عن مجزرة التضامن كما يعتقد الكثيرون، فبعد عقوبة استخدام الكيماوي والتي اقتصرت على تجريم السلاح وتبرئة مستخدمه، وبعد قانون قيصر الذي لم يسبب أذية حقيقية للنظام، وبعد آلاف الجرائم والمجازر التي لم تسفر عن أي إجراء حقيقي ضد الأسد، لم يعد الأخير يأبه بالمجتمع الدولي ولا بردود أفعاله التي يعرف جيداً أنها لن تتعدى بعض التصريحات، ثم تنطفئ جذوتها بالتدريج.

لا علاقة للعيد أيضاً بمرسوم العفو، فأفراح الناس ومناسباتهم لا تهم الأسد في شيء، كل ما في الأمر أن الأسد يريد المضي قدماً في ترسيخ فكرة الرئيس الإله، وهنا بالضبط موضع إدانته ليس بوصفه متجرئاً على الدين، بل بسبب تجرّئه على تثبيت فكرة أنه أهم من الوطن وأهم من الشعب، ومرسوم العفو يأتي دليل إدانة صريحاً في هذا السياق..

ليس ذلك الكم من المتجمهرين والذي يعطي مؤشراً واضحاً على أعداد المعتقلين، ودليلاً آخر على ابتزاز الناس وتجيير عذاباتهم من أجل تبييض صفحة الرئيس، ولا الفضيحة المدوية التي شاهدناها من خلال حالة المفرج عنهم والذين خرجوا كجثث متحركة بعد أن أفقدهم التعذيب كل مقومات الإنسان، كل ذلك ليس سوى القشرة الخارجية لأدلة الإجرام، فالدليل الأهم هو مرسوم العفو نفسه، الذي يحمل إدانة واضحة للرئيس ليس فقط فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبها خلال أحد عشر عاماً، بل بالجريمة الأهم وهي جريمة ادعاء الألوهية والقبول بتأليهه من قبل أتباعه ومؤيديه، جريمة السماح لأولئك الأتباع بأن يفعلوا ذلك، إنها جريمة تشويه الإنسان والعبث بالقيم، وتجريف البنية الأخلاقية، جريمة التضحية بالوطن والشعب معاً من أجل شخص يريد البقاء على كرسي الحكم ولو شكلياً دون قرار سيادي ودون أي صلاحيات تتعلق بالمصالح العليا للوطن، ومن أجل المحافظة على مهمة قتل السوريين وتنفيذ أجندات الدول الداعمة للرئيس ومصالحه الخاصة.

المرسوم شكل أملاً للكثيرين ممن ينتظرون بفارغ الصبر خبراً عن مفقوديهم، قبل أن يكتشف هؤلاء أنهم راحوا ضحية خديعة جديدة من خدع الأسد

لقد اضطر كثير من السوريين للتعاطي مع أمر يثير السخرية، كقرار العفو، بشكل جاد، فعلى الرغم من كاريكاتورية الموقف حينما يعفو الجلاد عن الضحية، وعلى الرغم من الكذبة المفضوحة في كل ما يتعلق بهذ العفو، إلاّ أن المرسوم شكل أملاً للكثيرين ممن ينتظرون بفارغ الصبر خبراً عن مفقوديهم، قبل أن يكتشف هؤلاء أنهم راحوا ضحية خديعة جديدة من خدع الأسد، وأن هدف الرئيس هو تصدير نفسه على الهيئة التي يرتئيها وليس التعاطف مع المظلومين الذين فقدوا سنوات طويلة من عمرهم، أو فقدوا حياتهم كلها عندما أراد الرئيس ذلك.

عرفت دول العالم ظاهرة العفو، ولكنها تتم من خلال إجماع حكومي ولظروف مختلفة تماماً عن ظروف الاعتقال في سوريا، ويكفي هذا المرسوم وراسمه ذلاً أن أحداً من السوريين لم يصدقه، ولم يعره أي قيمة، ما يؤكد غياب الدولة واستبدالها بشخص، وما يعني أن أسباب الثورة في سوريا باتت ملحة أكثر من السابق..