استراحة سورية على هامش النفايات الأخلاقية

2022.12.16 | 06:32 دمشق

استراحة سورية على هامش النفايات الأخلاقية..
+A
حجم الخط
-A

لطالما أعجب ونستون تشرشل بالقاعدة المأثورة في الفكر السياسي الحديث: "السياسة فن الممكن". غير أنّ الزعيم البريطاني رآها تبريراً لجنوحه وتسلطه، حتى إن "ديفيد لويد جورج"، الذي كان رئيساً للوزراء في أثناء النصف الأخير من الحرب العالمية الأولى، لم يفتأ يحذّر من سياسة تشرشل الحمقاء، داعياً إلى ضبط اندفاعاته لتجنيب البريطانيين حماقات الزعيم المغامر واللا مسؤول. وعليه خرجت الأخلاق من السياسات المستبدة، كي تصبح هذه الأخيرة تدبيراً جهنمياً وضحكاً على ذقون الشعوب المنقادة انقياد القطعان العمياء.

وإذا ما سلمنا بأنّ سوريا تقبع اليوم على شفا جرف خطر، وفي منتهى الانسداد القيمي، فلا شك أنها، في المقابل، وهي المشدودة من عنقها، تدرك بأنّ الأخلاق ضرورة لا اختيار، وواجب لا ندب. وحيث هنا وفي ضوء الانزياح الشاذ في النمط السوري المعاش، وفلسفة الحاكم القائمة على "التبئيس الجماعي" في مجتمع القطيع الذي هربت منه شخصانيته، غدا كل ما هو إنساني أو أخلاقي، محض أشياء تحسب وفق معايير السوق السياسي، في ظلّ نظام بلغت وقاحته مبلغاً، أصبح فيه الحديث عن الإبادة الأخلاقية حديثاً مستساغاً ومتداولاً عفو الخاطر.

أفظع أشكال الإبادة الأخلاقية السورية، هي ما يجري في مناطق سيطرة نظام الأسد، حيث انتشرت ظاهرة "الاتجار بالنساء"، لا بقوة السلاح إنما بقوة القهر والفقر

وإن اتفقنا أنّ عالم المقهورين هو هامش النفايات الأخلاقية، هنا فقط يصبح الحديث عن الأخلاق، قضية ملحة. فأي مستقبل إذن لشعبٍ تُصاغ أخلاقه وقيمه حسب ما يفرضه نظام فاشي جعل من السوريين أشياء جامدة قابلة للتركيب والتفكيك إلى قطع غيار. والأخلاق لذلك مجرد صور تزدان بها معارض الفرجة الموسمية المطعّمة بالشعارات البائسة وخيبات الأمل.

تأسيساً على ما تقدّم نستطيع الجزم بأن أفظع أشكال الإبادة الأخلاقية السورية، هي ما يجري في مناطق سيطرة نظام الأسد، حيث انتشرت ظاهرة "الاتجار بالنساء"، لا بقوة السلاح إنما بقوة القهر والفقر. ليس فقط في البيوت المخصصة لها، إنما في الفنادق والأطلال المهدمة وحواجز العسكر، وفي كل مكان يتسع لجسدين. هذا يعني، عملياً، أننا أمام كارثة إنسانية واجتماعية ليس لها مثيل. علماً أنّ سوريا عضو باتفاقية قمع "الاتجار بالنساء" الموقعة في نيويورك عام 1950.

الجدير بالذكر أنّ هذه الظاهرة كانت موجودة في خمسينيات القرن الماضي في مدينة حلب ودمشق، في مركزين فقط، بشكل قانوني ومراقبة صحياً من قبل وزارة الصحة ومؤسسات مختصة أخرى، كما هو حاصل في معظم دول العالم وخاصة الأوروبية. وفي عام 1963 تمّ إغلاق هذه الأماكن. ولكن بدل أن يكون هناك أماكن محددة لممارسة الجنس، انتشرت بالسبعينيات آلاف البيوت المشبوهة المدعومة من قبل بعض متنفذي النظام السوري. وقُدّر عددها بأكثر من أربعين ألف دار في فترة حكم الأسد الأب. وفي الحقيقة التفّ النظام على موضوع عدم وجود قانون يرخص هذه الدور بترخيص نقابة الفنانين لكل اللواتي يعملن في المراقص الليلية على أنهنّ فنانات، فتضاعفت أعدادهن في عهد الأسد الابن، وخاصة بعد عام 2004.

وبالتالي من المهين، على سبيل المثال، وبينما تعتبر دمشق القديمة أحد أبرز المعالم التاريخية في العالم، أنها لم تعد كذلك في عهد الأسدين، بعدما تحولت من مراكز ذات قيمة إنسانية وتراثية، إلى نواد ليلية وأوكار للدعارة. وأيضاً، من العار أن يتحول المكان الأعز قيمة لدى السوريين بحُكم رمزيته التاريخية، حيث أعدم المحتل الفرنسي الثوار بين عامي 1925-1927. أن تتحول "ساحة المرجة" أو "ساحة الشهداء" إلى بؤرة غاصة بالفنادق المشبوهة سيئة الصيت، وصار أمراً عادياً، بل ومستحباً، أن يسمع المارّ من يهمس له قائلًا: "استراحة يا أستاذ"، في دعوة مباشرة ووقحة لممارسة الرذيلة.

ثمة دمار وحشي ارتكبه نظام الأسد، لا شك. ولم يكتفِ بهذا، بل انخرط في جريمة إبادة أخلاقية جماعية متكاملة الأركان. واليوم من البديهي أن يأتي ناشط ينتمي للفئة الموالية (نفسها) ليفضح نظام الأسد، وتورطه في التستر على أحد المجمعات السياحية في اللاذقية، وتحويله إلى بيت "للدعارة" خاص بالضباط والجنود الروس، في حين معظم العاملات فيه من زوجات ضحايا الحرب. يتمّ بيع وشراء أولئك النسوة واستغلال حاجتهن. وأكد الناشط تورط النظام بالتستر على مثل هذه الأنشطة وتجنب ملاحقتها، بسبب ارتباط القائمين عليها بالأجهزة الأمنية والعديد من المسؤولين. سبق هذه الفضيحة أنْ أصدر بشار الأسد قانوناً شرعن فيه الزنا بشكل مبطّن، بعد أن سمح بتسجيل الأبناء من زواج غير شرعي بمجرد وجود وثيقة تثبت عائدية الطفل لوالدته، وهذه الوثيقة قد تتوفر من أي مشفى أو مركز صحي.

وفي الحقيقة أدّت حالة الفلتان الأمني وسيطرة الميليشيات في مناطق الأسد إلى تحوّلها إلى مرتع للجرائم وحوادث الانحلال الأخلاقي. ظواهر باتت صفحات ووسائل إعلام النظام تطفح بها كلّ يوم. حيث كشفت إذاعة "شام إف إم"، معلومات حول وجود خط معفى من التقنين في "حي النسيم" بجرمانا، الشهيرة بـاسم (لاس فيغاس دمشق)، ليتيّبن لاحقاً أن هذا الامتياز بغرض تشغيل الملاهي الليلية المنتشرة في الحي.

كما نشرت صفحة أخبار اللاذقية صورة إعلان، لا يشترط الخبرة، يطلب شابات للعمل بالمساج والعلاج الفيزيائي براتب يبلغ 500 ألف ليرة. ليتضح أن هذا الإعلان، بدوره، ما هو إلا طريقة "لبقة ومحترمة" للترويج للدعارة المقنّعة. أيضاً كشفت صحيفة صاحبة الجلالة الموالية عن تفشي ظاهرة مشابهة تحت مسمى "جليسة"، ومهمتها مرافقة الزبون في المطعم أو الخروج معه في (مشاوير) مقابل أجور متفاوتة بحسب رغبة الزبون وحدود (الرفقة) التي يختارها.

في السياق وفي عام 2016 فضح مقطع فيديو متداول ما يقوم به نظام الأسد. إذ أظهر فتيات جامعيات تطوعن لخدمة الجنود الروس في معسكر ابن الهيثم في مدينة حمص، ضمن مجموعة تسمى "عطاء حمص" مهمتها الترفيه عن ما يقارب من 1300 جندي روسي بينهم 54 ضابطاً. وبحسب مصادر فإن مؤسس الجماعة يدعى "رئيف النقري"، عمل ذلك بتوجيه من الضابط في المخابرات الجوية "ريبال رستم" الذي  تعهد بالتكاليف كاملة من حماية ومصروفات وتنقل.

بات معروفاً أنه حيثما رأيت سياسياً يتحدث عن الأخلاق حتى تدرك أن كارثة ما ستحصل حكماً. فاللغة والمعنى ليسا من شيم السفاحين

عموماً لا أحد يستطيع التنبؤ، متى يتضخم الخطاب الأخلاقي "السياسوي" ومتى ينقرض نهائياً. ولكن يظل على كلّ حال ثمة معيار واضح لمشاريع جهنمية يخفيها أيّ التفاف أخلاقوي لسياسيين ما فتئوا يتنكرون لأبسط معاييرها. حتى بات معروفاً أنه حيثما رأيت سياسياً يتحدث عن الأخلاق حتى تدرك أن كارثة ما ستحصل حكماً. فاللغة والمعنى ليسا من شيم السفاحين.

وعلى الرغم من الفهم غير المتطور لعلاقة الاستبداد بمنظومة الأخلاق في قطاع مهم من المجتمع السوري، إلا أنّ الثقافة الشعبية تدرك جيداً أنّ من السمات الرئيسة للقيم اتسامها بالديمومة والثبات. فقيمتها متمثلة في معياريتها الثابتة في الحكم على الأشخاص والجماعات والمواقف، وفي تمييز الصالح من الطالح عموماً. وثبات هذه المعايير من ثبات التعايش المديد معها سلوكاً، فمن ألِف الظلم صار ظالماً، ومن ألِف القبح صار قبيحاً. وكلّ ذلك نتيجة انهيار منظومة القيم وتراجع الأخلاق من الممارسة السياسية، تلك التي أسرّ بها ميكافيللي إلى الأمير، وتلقاها نظام الأسد كهدية معتبرة.