اتجاهات الإسلام السياسي التركي المعاصر

2020.11.21 | 23:00 دمشق

5ca1c73845d2a02964191c45.jpg
+A
حجم الخط
-A

تركت تجربة الإسلام السياسي التركي على مدار القرن الماضي أثرها الواضح في تكوين فكر (حزب العدالة والتنمية) كواحد من أهم تيارات الإسلام السياسي الأكثر حضوراً وتأثيراً ليس في تركيا فحسب، وإنما في العالم العربي والإسلامي عامة، لذلك سنحدد فيما يأتي – وبشكل مختصر - المعالم الأساسية لخريطة الإسلام السياسي التركي المعاصر؛ الذي ساهم بصورة فاعلة في رسم معالم الحياة السياسية في تركيا، والعالم العربي والإسلامي في العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين.

في الانتقال من العلمانية الصلبة إلى العلمانية اللينة:

حكمت العلمانية الصُلبة تركيا حتى الخمسينيات من القرن العشرين عبر نظام الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري)، الذي منع تشكيل أي أحزاب سياسية، مهما كانت طبيعتها قومية أو دينية.

لكن المتغيرات الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومحاولة الغرب كسب ود تيار الإسلام السياسي التركي الوسطي، لمنع وصول المعسكر الاشتراكي أو الاتحاد السوفيتي سابقاً إلى البلقان ودول آسيا الصغرى. أحدثت تغيرات كبيرة في العوامل الداخلية التي ساهمت في الانتقال من العلمانية الصلبة إلى العلمانية اللينة عبر مجموعة من المتغيرات داخل الساحة التركية، يمكن تلخصيها فيما يلي:

 وصل الحزب الديموقراطي إلى السلطة في الفترة الممتدة من (1950م – 1960م) نتيجة للتحالف – غير العلني- بينه وبين التيار الإسلامي، وبخاصة عندما طلب الحزب من زعماء الطرق الصوفية والزوايا (المحظورة) التصويت له في الانتخابات ليصبح بذلك الكفة المعادلة للجيش والنخبة العلمانية في السياسة التركية، وقد أعلن بعد فوزه في الانتخابات العديد من القرارات: إعادة رفع الآذان باللغة العربية، والسماح بتدريس الدين الإسلامي

شهد عام 1970م وما بعده تحوّلاً كبيراً في طبيعة الحياة السياسية التركية، وهو ظهور أول تيار سياسي إسلامي فيها على يد نجم الدين أربكان

في المدارس، وإصدار المجلات والكتب الإسلامية. إلا أن القرارات لم تدم طويلاً بسبب الانقلاب عليها عام 1960م، وإعدام زعيم الحزب الديموقراطي عدنان مندريس الذي اتهم بمحاولة قلب النظام العلماني، وتأسيس دولة دينية بحسب ادعاء المحكمة آنذاك.

شهد عام 1970م وما بعده تحوّلاً كبيراً في طبيعة الحياة السياسية التركية، وهو ظهور أول تيار سياسي إسلامي فيها على يد نجم الدين أربكان، الذي أسّس أولاً (حزب النظام الوطني)، ثم (حزب السلامة الوطني)، فضلاً عن دخوله الحياة البرلمانية 1973م، ثم قيامه بتأسيس (حزب الرّفاه) والوصول إلى السلطة وتشكيل الوزارة برئاسته 1996م، وتم الانقلاب (28 شباط 1997) عليها بعد أقل سنة من حكمها، وإعادة إغلاق المدارس الدينية وحظر الحجاب في الجامعات وغيرها من جديد.

 ساهمت العوامل الداخلية وتطورات الواقع التركي، فضلاً عن أثر المتغيرات الدولية والعولمة وأحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001م في تليين العلمانية الصلبة، والتأكيد على الحاجة لنظام حكم يتصالح من الواقع التركي وتطوراته، الذي تمثّل بوصول حزب (العدالة والتنمية) المحافظ إلى السلطة عام 2002م، والذي قامت أفكاره على الجمع بين الأفكار الإسلامية السياسية والحداثة الأوروبية وهو ما أسهم في تحويل العلمانية الصلبة إلى علمانية ليّنة ميزت التجربة التركية عن التجارب الأخرى.

خريطة الإسلام السياسي التركي المعاصر:

هناك اتجاهات متعددة للإسلام السياسي التركي المعاصر، وهي:

أولاً – التيار التقليدي:

 يعتمد هذا التيار على التقليد أساساً له في رؤاه الفكرية والاجتماعية والسياسية، ويقسم إلى ثلاثة أنماط:

  1.  التيار التقليدي المدرسي:

 وهو التيار الذي يركز على التعليم المدرسي الفقهي، وتحديداً فقه العهد العثماني، وأبرز الجماعات التي تنضوي تحت هذا التيار جماعة محمود أفندي (1929م - ).

  1. التيار التقليدي الصوفي:

وينطلق أصحابه من الفكر الصوفي، وتحديداً التصوف الطرقي، وأهم الجماعات الصوفية التي تمثل هذا التيار: جماعة منزل، وجماعة إسكندر باشا (1942م – 2019م) وغيرهما.

  1. التيار التقليدي السلفي:

يركّز هذا التيار على الحديث النبوي، ويؤكد على ضرورة العودة إلى القرن الأول الهجري، وهذا التيار قريب في فكره إلى فكر السلفية العربية. وأهم دعاة هذا التيار جماعة أبي حنظلة التي تعود لمؤسسها خالص بايانجك (1984م -  ).

ثانياً – التيار الإصلاحي:

ينطلق هذا التيار في رؤيته من مفهوم الإصلاح الديني لكل أشكال الحياة الدينية والفكرية والسياسية والتربوية، ولا يشترط هذا التيار على خلاف التيار التقليدي أن يكون زعيمه حاصلاً على التعليم الشرعي، إنما يعتمد التيار الإصلاحي على قوة زعيمه وحضوره، وتأثيره ونفوذه، والطريقة التي يدير بها القضايا، ويقسم هذا التيار إلى فريقين:

  1. فريق الإصلاح الثقافي:

يعتمد هذا الفريق على الفكر الإصلاحي، وتحديداً الإصلاح التربوي، لذلك يسعى إلى هذه الوسيلة بكل ما لديه من قوة، من ذلك مثلاً إنشاء مدارس خاصة، وسكن خاص لطلاب هذا التيار، ومجلات وجمعيات متعددة الاختصاصات، فضلاً عن اعتماده الإعجاز العلمي وسيلةً لتثبيت خطابه الديني. إلا أن هذا التيار لا يقترب من السياسة أبداً، فهو يتمثل مقولة شيخه سعيد النورسي (1876م – 1960م)، في رسائل النور، وخصوصاً في مرحلته المتأخرة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".

  1.  وفريق الإصلاح السياسي:

ينطلق أصحاب هذا الفريق في بنائه الفكري الحزبي من مفهوم الإصلاح السياسي، مع التأكيد على ضرورة خوض غمار السياسة، وانخراط كل أفراد المجتمع بها، وأهم أحزاب هذا الفريق: "حزب العدالة والتنمية"، و"حزب السعادات"، وحزب "هدى بار" الذي ينتشر في الجنوب الشرقي لتركيا فقط.

ثالثاً – التيار الحداثي:

يتبنى مفاهيم الحداثة في التعامل مع التراث الإسلامي بكل تنوعاته الفقهية والكلامية والصوفية، ويقسم إلى فريقين:

  1. فريق الحداثيين التاريخيين:

يتصف هذا الفريق بأنه يميّز بين الدين الإسلامي، والثقافة الإسلامية التي أنتجها التاريخ الإسلامي، ويتجلى ذلك عبر إيمانه بضرورة تأويل الأفكار الإسلامية، وتأكيده أولوية العقل على النقل في هذه العملية التأويلية، ومن أهم رموزه: حسين آتاي (1930م -)، مصطفى أوزتورك (1965م - )، وياشار نوري أوزتورك (1951م -  2016م)،

  1. فريق الحداثيين القرآنيين:

وهم الذين ينطلقون في خطابهم من القرآن فقط بوصفه المصدر الوحيد للإيمان والتشريع الإسلامي، فلا بدّ أن تكون تأويلاته مُتفقة مع العصر. فالحداثيون القرآنيون نخبة فكرية استندت إلى أفكار كل من مصطفى إسلام أوغلو (1960م - )، وأديب يوكسل (1957م - )، والتفت حولهما (جماعة) تؤمن بأفكارهما.

تعبر التيارات المختلفة للإسلام السياسي التركي المعاصر عن غنى تجربته، وتميزها عن غيرها من التجارب الأخرى في العالم الإسلامي، لا في التعامل مع الأفكار الإسلامية السياسية فقط، وإنما أيضاً في كيفية تعاملها مع العلمانية الصُلبة وتجاوزها إلى العلمانية اللينة التي حققت من خلالها هذا الحضور اللافت.