إيلي الفرزلي والحق في تمويت اللبنانيين

2021.02.27 | 00:08 دمشق

elie-ferzleh.jpg
+A
حجم الخط
-A

 بعد انكشاف موضوع سرقة مجموعة من النّواب الحق في تلقّي اللّقاح من عموم اللّبنانيّين، عمدوا إلى التعامل مع الموضوع بطريقتين، أولها كانت الاعتذار والثانية كانت الطريقة الفرزليّة، أي ما يمكن أن يسمّى بالسّعار.

انفجر الفرزلي في وجوهنا محمّلا بميراث ثقيل من الوقاحة الأسديّة ليقول على الشّاشة إنّه لن يعتذر أبدا عن فعلته، وإن كلامه بمثابة الدستور يوجب على محاوره مقدّم البرامج "مالك مكتبي" الرّضوخ له.

نائب رئيس المجلس النيابي وأحد أبرز سارقي اللّقاح خفّف من تهديدات ممثّل البنك الدّوليّ في لبنان "ساروج كومار" بتجميد تمويل البنك لشراء اللّقاحات، واصفا إياه بالكذاب ومطالبا بتغييره، كما كان قد سخر من اسمه وأطلق عليه لقب "فروج مروش" وهو مطعم شهير يعنى ببيع الفراريج المشويّة.

وقاحة الفرزلي ليست جديدة، وإن كان قد حرص في مشهده الأخير على دفعها إلى حدود قصوى، ولكن اللّافت هو توقيتها وسياقاتها ومعناها، إذ إن عنوانها العريض لا يتّصل بسجال سياسيّ واضح المعالم، أو بعنوان صراعيّ مع طرف، بقدر ما يتعلق بشكل خاص بحق اللّبنانيّين في العيش.

السّعار الذي أصابه، والاستشراس في الدّفاع عن فعلته، لا بل الحرص على تكريسها كبنية دستوريّة يعلن أنّ ما يريد تكريسه، لا يخرج عن كونه انتزاعا للحق في تمويت عموم اللّبنانيين.

الأثر المحتمل لهذه الفعلة في حال عمد البنك الدوليّ إلى تنفيذ تهديداته سيكون كارثيّا، فالبلد لا يملك الإمكانيات الّتي تتيح له شراء اللّقاح خارج هذا التمويل. يضاف إلى ذلك أنّ الشّركات المنتجة الّتي تتأخر في إرسال اللّقاحات لدول كبرى تدفع ثمنه نقدا ومباشرة وتفرض شروطا صعبة عليها، قد تعتبر أن عدم توفّر الشّروط الصّحيّة والقانونيّة والميدانيّة للتّعامل مع اللّقاح قد يتسبب بأخطاء تشوّه سمعته وتوثر على استثمار عالميّ بمليارات الدّولارات.

الفساد السياسيّ والقانونيّ يعكس كذلك فسادا طبيّا وتقنيّا، يجعل البلد غير جاهز لاستقبال اللّقاحات والإيفاء بشروط استخدامها

تاليًا حتى لو لم يعمد البنك الدّوليّ إلى وقف التّمويل فإنّ الشّركات المصنّعة، ومع اهتمام الصّحافة العالميّة بالموضوع والنّظر إليه كعلامة على التصاق الفساد بالنّظام اللّبنانيّ ككل، قد تعتبر أنّه لا وجود لبناء قانونيّ ومؤسساتيّ يسمح للدّولة بالتّعامل مع متطلبات اللّقاح، وأنّ الفساد السياسيّ والقانونيّ يعكس كذلك فسادا طبيّا وتقنيّا، يجعل البلد غير جاهز لاستقبال اللّقاحات والإيفاء بشروط استخدامها.

الأكثر إرعابا من فعلة الفرزلي هو تلقيها في المجال العام اللّبنانيّ الّذي قابلها بالسّخريّة والاستهزاء والتّعليقات المازحة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وما إلى ذلك، من دون أيّ محاولة لبلورة ردة فعل ذات طابع احتجاجي جدي، وبدا أنّ الغضب قد انحل وذاب في محيط يأس يحاول أن يكون ضاحكا، بينما تتعمق طبقاته متسببة في سحب الفاعليّة الاعتراضيّة وخنقها.

يسخر الناس من دون امتلاكهم للعزم والحيل، فتتحوّل السّخرية من سلاح مواجهة إلى خطاب عزلة.

الفرق حاسم بين سخرية أو شتائم ضد السلطة تُقال في العلن في ميدان عام وبين تعليقات تكتب على وسائل التّواصل الاجتماعي، وهو الفرق بين خطاب احتقار السلطات وتبخيسها وبين الاعتراف بسطوتها والتأكيد على أنها باتت قدرا لا مفرّ منه ولا يمكن مواجهته، حيث تسحب من السّخريّة عصبها وتصبح بمثابة تراكم مستمر لمفهوم الهزيمة.

ولكن على الرّغم من تفاوت القوى بين الناس وممثلي السّلطات، عمد الفرزلي إلى استخدام السّخرية في حديثه عن ممثل البنك الدّوليّ ليعلن أن المواقع تحدّد المعاني، فهو ينطق باسم النّظام اللّبنانيّ الّذي يستمد شرعيّته من سلاح حزب الله، لذا فإنّه يلقي بنوع من النّكات المسلّحة القاتلة والقادرة على استحضار فعل التّمويت والتّسبب به ونشره.

هذه السّخرية المسلّحة تنتج طبخة مسوخ تدخل في تشكيلها جملة من المكوّنات الأساسيّة، لا تقتصر على استحضار الموبقات الأسديّة والرّطانة البعثيّة والحنين إلى زمنها اللبناني بل يدخل في تكوينها النّزوع الأقلويّ والرّثاثة الإيرانيّة الإلهيّة واستعلائها، مع نزوع إبادي شامل يفسّر آليّة عملها ويشرحها.

أن يسخر مسؤول رسميّ بشكل مهين من شخصيّة تمتلك قرارا يرتبط بحياة اللّبنانيّين فهذا ليس سوى حض لها على اتخاذ قرار برد عنيف أو إجبارها عليه دفاعا عن كرامتها.

يلعب الفرزلي بمصير اللّبنانيّين محولًا إياه إلى قضيّة كرامة شخصية. يريد أن يُلبنن موضوع التّمويل ويدخله في حقل ألغام التّعامل الداخليّ اللّبنانيّ مع الشّأن العام لكي يغرقه في بئر الاستعصاءات والاستحالات.

هكذا يتشرعن التّمويت العام ويتكامل مع سلسلة من عناوين المجازر المتنقّلة في كلّ الميادين، حيث تحضّر السّلطة مجازر إعلاميّة بدأت تباشيرها مع استدعاء مسؤولي القنوات اللبنانيّة أمام المجلس النّيابي لمطالبتهم بالتّوقف عن انتقاد حزب الله بشكل أشبه بتهديد مباشر.

تتعدد الأساليب ولكن نزعة التّمويت واحدة وموحدة وتشكّل عصب تفكير السّلطات والعنوان العريض لعملها

المجزرة القانونية تُطبخ في أقبية المحكمة العسكرية التي قررت تفعيل مواد قانونيّة مرتبطة بالإرهاب واستخدامها لتوجيه دعوى جماعيّة بحق مجموعة من الشّباب الطّرابلسيين على خلفيّة مشاركتهم في أعمال احتجاجيّة في طرابلس منذ فترة، كما تم تبرير محاولات دفن الحقائق في قضيّة انفجار مرفأ بيروت عبر إقالة القاضي فادي صوان تحت عنوان هرطقة قانونيّة أطلق عليها تسمية "الارتياب المشروع" تقوم على أن القاضي متضرّر من الانفجار، وتاليًا فإن حكمه قد يتأثر عاطفيًّا بكونه ضحيّة.

تتعدد الأساليب ولكن نزعة التّمويت واحدة وموحدة وتشكّل عصب تفكير السّلطات والعنوان العريض لعملها.

لا أحد يمكنه التّفوق على الفرزلي في قدرته على أن يكون وجه هذا المشروع وواجهته، لأنّه قادر بمجرد ظهوره على توحيد كل عناوينه الإباديّة ونفثها في وجوهنا وبثّها في حياتنا على هيئة وباء لا لقاح له.