إيران بعد سليماني... المشروع يتراجع وسياسة "ميغافون" مستمرة

2021.01.10 | 00:03 دمشق

-1-20.jpg
+A
حجم الخط
-A

أكدت الذكرى السنوية الأولى لاغتيال مسؤول الحرس الثوري الجنرال المتنفذ قاسم سليماني عجز إيران وضعفها وتراجع مشروعها في المنطقة ككل، وفي الوقت نفسه استمرار سياسة ميغافون - الصراخ والصوت العالي – التي ميزت النظام طوال الوقت، وهي ميزة موصوفة أيضاً وشائعة لدى الأنظمة الاستبدادية في العالم.

بداية لا بد من التأكيد على حقيقة أن تراجع المشروع الإيراني الاستعماري التوسعي في المنطقة كان قد بدأ قبل اغتيال سليماني بفترة غير قصيرة، وبنظرة إلى الوراء يمكن الاستنتاح أن عملية الاغتيال نفسها كانت تعبيراً عن هذا التراجع ومنعطفاً أو نقطةً مفصلية ليس فقط كبرهان عليه وإنما لتسريع وتيرته أكثر.

بتفصيل أكثر كان سليماني يتبجح دائماً أنه مسؤول ومدير السياسة الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وعموم المنطقة، علماً أن النفوذ الإيراني كان تحقق أساساً عبر الانتهاك الفظّ والبشع للقوانين والمواثيق الدولية وارتكاب جرائم حرب موصوفة ضد الشعوب العربية في تلك الدول، وقبل ذلك وبعده نتيجة لتواطؤ وتآمر إيران المباشرين مع الغزاة الأجانب، أميركا في أفغانستان والعراق وروسيا في سوريا.

استجدت إيران عبر قاسم سليماني شخصياً الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق للتخلص من نظامي حركة طالبان وصدام حسين المعادين لها، ثم تحوّلت في الحالة العراقية إلى مقاول صغير للاحتلال الأميركي ضمن تقاسم للمهام لحظ أساساً تدمير البلد وتقاسم خيراته وثرواته وإبقائه ضعيفاً غير قادر على النهوض وحكم نفسه بنفسه.

تحوّل السياسة الأميركية في عهد دونالد ترامب كشف إيران في العراق، وتحوّل روسيا إلى قوة الاحتلال الحامية لنظام الأسد كشفها في سوريا أيضاً

استجدت إيران وعبر سليماني أيضاً الاحتلال الروسي لسوريا، كما أكد منذ أيام ذراعها الإقليمي والناطق بإسمها حسن نصر الله بعدما عجزت مع حشودها الطائفية الموتورة عن حماية نظام بشار الأسد، ومنع سقوطه، فسافر سليماني نفسه إلى موسكو – آب أغسطس 2015 - مستجدياً ومستعطفاً فلاديمير بوتين للتدخل في مسعى يائس لتأجيل نهاية النظام "الحتمية" ثم قبلت بعد ذلك دور المقاول الصغير والهامشي للاحتلال الروسي.

تحوّل السياسة الأميركية في عهد دونالد ترامب كشف إيران في العراق، وتحوّل روسيا إلى قوة الاحتلال الحامية لنظام الأسد كشفها في سوريا أيضاً، هذان التحوّلان أديا إلى فقدانها وأذرعها البرية التغطية الجوية الأميركية في العراق والروسية في سوريا، فباتت مكشوفة أمام الضربات الجوية الإسرائيلية دون قدرة على منعها أو الرد عليها لا زمن سليماني ولا بعده بظل موافقة الاحتلالين الأميركي والروسى على تلك الضربات، بل تقديم كل أشكال الدعم والمساندة لها.

زوال الغطاء الخارجي عن إيران أدى إلى تراجع مشروعها الاستعماري التوسعي في الدول العربية وضمن أسباب أخرى شملت الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية المأساوية لتلك الدول اندلعت الانتفاضات الشعبية العربية الرافضة للهيمنة الإيرانية، كما رأينا في العراق حيث الاحتلال أكثر سفوراً وبشاعة وحتى في لبنان رغم القناع المتمثل بحزب الله وأدواته المحلية. وهنا لا بد من تذكر عجز سليماني شخصياً رغم الاغتيالات والجرائم البشعة عن إجهاض الانتفاضة العراقية، كما عن فرض رئيس حكومة تابع له، وهي المهمة التي حقق بها حزب الله نجاحاً نسبياً وتكتيكياً ومرحلياً فقط في لبنان لكن مع فشل استراتيجي إثر سقوط حكومة "الدمية حسان دياب" بعد انفجار المرفأ الصيف الماضي الذي يتحمّل الحزب مسؤولية أساسية ومركزية عنه أيضاً.

من هنا يمكن القول إن اغتيال سليماني كان تعبيراً عن المعطيات السابقة المجتمعة بعدما بات مكشوفاً أو ظن أنه يمكنه تغيير قواعد اللعب التي فرضتها أميركا بصفتها القوة الكبرى القائمة بالاحتلال في العراق حيث تم اغتياله في نفس المكان-مطار بغداد- الذي كان يسمح له بالهبوط فيه لتنفيذ الأجندة والأهداف المرسومة له من قبل الاحتلال الأميركي.

مرحلة ما بعد الاغتيال أكدت بدورها وبما لا يدع مجالاً للشك تراجع المشروع الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وعموم المنطقة، وهنا يمكن الإشارة إلى شواهد وبراهين عدة:

عجز إيران وطوال سنة عن الردّ الجدّي على اغتيال رجلها القوي ورغم السقف المرتفع للخطاب الإعلامي الدعائي لها – ميغا فون - بدت إيران مستعدة للتساوق مع الواقع الجديد الذي ساد بعد الاغتيال في العراق والمنطقة. أما الحديث "النظري" عن الردّ عبر أدواتها وأذرعها فيعبّر عن المأزق لا الحل بالنسبة لها.

في الذكرى السنوية لاغتيال سليماني استعاضت إيران عن التراجع والضعف بالإيغال في سياسة "ميغا فون" أي الصراخ والصوت العالي والبروباغندا الدعائية

عجز إسماعيل قآاني عن ارتداء عباءة سليماني وملء الفراغ الذي تركه حيث بدأ قآاني مفتقداً لقدرات وكاريزما سلفه، وقد عبر هشام داوود مستشار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عن المشهد ببلاغة بقوله إن سليماني كان يتصرف كمسؤول عن العراق بينما ينتظر قآاني التأشيرة والموافقة للزيارة، والأمر هنا لا يتعلق فقط بالفروق بين الرجلين ولكنه يكشف أيضاً تراجع المشروع الإيراني في العراق لدرجة أن الرئاسات العراقية الثلاث لم تجد في الذكرى السنوية للاغتيال سبباً حتى لإصدار بيانات تنديد فارغة كما العادة.

في الذكرى السنوية لاغتيال سليماني استعاضت إيران عن التراجع والضعف بالإيغال في سياسة "ميغا فون" أي الصراخ والصوت العالي والبروباغندا الدعائية، حيث تولى الدور الرئيسي فيها ذراعها الإقليمي المركزي والناطق باسمها حسن نصر الله، الذي عمد إلى تعويض الضعف والعجز عن الرد على الاغتيال بتضخيم مبتذل وفارغ لدور سليماني محلياً وإقليمياً، كما لرفيقه أبو مهدي المهندس الذي كان مسؤولاً في سلطة خاضعة للاحتلال، وكان عاد أصلاً إلى العراق على ظهر دبابة أميركية.

ضابط إسرائيل كبير كان قد امتدح حسن نصر الله معتبراً أنه تصرف كوطني لبناني بعدم انخراط ميليشياته في الرد على اغتيال سليماني والعالم النووي محسن فخري زادة، بينما خرج نصر الله في لقاءاته وخطاباته الأخيرة عن طوره كي يثبت أنه أداة مركزية في المشروع الإيراني الاستعماري بالدول العربية مع نفاق وتزلف وتلطي بالقضية الفلسطينية لتبييض صفحة المشروع ككل.

غير أن أسوأ ما تضمنته سياسة ميغا فون الإيرانية كان استغلال غزة لتمليع صورة سليماني وإلباسه ثوب البطل الأسطوري الداعم للقضية الفلسطينية، وهذا غير صحيح بالمطلق قياساً للحقائق التاريخية والوقائع الراهنة، حيث خاض الشعب الفلسطيني في العقود الثلاث الأخيرة  انتفاضتين وثلاث حروب في ظل قطيعة أو علاقات عادية جداً مع طهران بينما تكفل سليماني نفسه بتدمير الحواضر العربية في حلب ودمشق والموصل وبغداد وتشريد أهلها وهي التي أخذت على عاتقها تاريخياً مهمة مواجهة الغزاة وتحرير فلسطين.

ورغم الحديث عن رد إيراني ما عبر الأذرع الإقليمية إلا أنها اكتفت بميغا فون في غزة ورغم الابتذال والتزلف إلا أن لا أحد يتحدث عن الرد من هناك بينما أكدت عودة حركة حماس إلى المصالحة مع حركة فتح وسلطة رام الله وفق المستجدات الفلسطينية والإقليمية والدولية، عدم تحولها إلى حشد شعبي أو ذراع إيرانية رغم تماهي بعض قادتها مع الخطاب الإيراني الميغافون.

في كل الأحوال بدا اغتيال سليماني قبل عام حافلاً بالدلالات والمعاني التي أكدتها الذكرى السنوية أيضاً لجهة ضعف إيران وعجزها عن الرد وتراجع مشروعها الإقليمي، أما المبالغة في سياسة ميغا فون فلم تكن سوى تأكيد لتلك الحقائق ومحاولة يائسة لإخفائها ولفت الأنظار عنها.