إيران الخمينية.. الكابوس الذي لم يفارق المنطقة

2021.10.15 | 06:06 دمشق

alamam-alkhmyny.png
+A
حجم الخط
-A

أثار صعود الخميني إلى السلطة في إيران 1979 قلقاً  لدى النظام الرسمي العربي على العموم، إلّا أنه كان قلقاً متفاوتاً، تحكمه الجغرافيا أولاً، باعتبارها الجدار الواقي للمصالح الأمنية، كما تحكمه المصالح السياسية بعيدة المدى، والتي بدأ الخطاب السياسي للحكم الجديد في إيران يثير المخاوف حولها. ولا شك أن دول الخليج كانت أكثر حساسية مما استجد في إيران.

وفيما كانت التبريكات وبرقيات التهنئة تنهال على الخميني من معظم العرب والمسلمين ( دولاً وأحزاباً وجماعات وأفراداً)، مبشّرةً بقدوم المُنقِذ الذي سيحرر القدس ويمحق إسرائيل من الوجود، ويوحّد الأمة الإسلامية، كان قادة الخليج يتهامسون بحذر متسائلين عمّا سينتج عن الخطاب الشعبوي الصاعد من إيران، والذي استطاع أن يستحوذ على شعبية واسعة على المستويين العربي والإسلامي.

لم يدم الانتظار طويلاً، فالخميني يدرك جيداً أن سخونة الثورة في إيران وما حققته من تعاطف عربي وإسلامي يجب استثمارها، كما يجب ألّا تبقى حبيسة داخل حدود إيران، فكانت الحرب العراقية الإيرانية في أيلول 1980، قد يكون العراق – من الناحية الشكلية – هو من بدأ بالحرب، ولكن الحقائق تؤكّد أن من خطط للحرب وأصرّ على اندلاعها هو الخميني، الذي أكّد، وما يزال أتباعه يؤكدون، أن الثورة الإسلامية لن تكون أسيرة الجغرافيا، كما أن الثورة هي ثورة أمة وليست ثورة بلد هو إيران، وهكذا بدت فكرة ( تصدير الثورة) تجد ترجمتها الفعلية في الدعم المطلق بكل أشكاله العسكرية والسياسية (لحزب الدعوة) ذي المرجعية الإيرانية داخل العراق، بهدف إسقاط النظام في العراق ومن ثمّ تحويله إلى امتداد لإيران ( وهذا ما تحقق عام 2003 )، ليصبح عبور الثورة إلى الخليج العربي أمراً ميسوراً. ومما لا شك فيه أن هذا الكلام يثير حفيظة الكثيرين، بل يخالف الكثيرين الذين ما يزالون يصرّون على أن من بدأ الحرب، ومنهم من يقول افتعلها، هو العراق، ولعل سبب إصرارهم هذا أمران، إمّا لأنهم لا يريدون الاعتراف بخطأ تقديراتهم وموقفهم من ثورة الخميني آنذاك، وإمّا بسبب موقفهم السياسي أو الإيديولوجي من نظام صدام حسين، ولكن مهما تكن وجاهة هذه المبررات، فإن المواقف السياسية والعقدية ينبغي ألّا تحجب الحقائق الملموسة على الأرض.

ولعله من نافل القول أن انحياز دول الخليج إلى جانب العراق ودعمها له مالياً طيلة أعوام الحرب الثمانية، لم يترجم بالضرورة انسجاماً سياسياً بينها وبين العراق، بقدر ما يترجم خشيتها من الخطر المتصاعد من إيران، ما جعلها تجد في العراق الدريئة الواقية الوحيدة التي تتوقّى بها خطر الخمينية الصاعدة. ولعل اللافت للانتباه آنذاك، أن انحياز دول الخليج إلى جانب العراق لم يؤد إلى قطيعة بينها وبين نظام حافظ الأسد، وذلك على الرغم من تماهي الأسد المطلق مع إيران من جهة، وتصاعد العداء بينه وبين نظام صدام حسين من جهة ثانية، بل كان ثمة حرص خليجي على أن تمتين العلاقة مع نظام دمشق، لاعتقادهم بأن الأسد هو صمام الأمان الثاني تجاه الخطر الإيراني، ولئن كان نظام العراق دريئة عسكرية، فإن نظام دمشق هو حليف لإيران، وهو الوحيد القادر على إقناع الخميني بعدم استهداف دول الخليج عسكرياً، وهكذا استطاع حافظ الأسد استثمار هذه المعادلة، وابتزاز دول الخليج طيلة ثماني سنوات من الحرب. وقد شهدت الفترة الممتدة من العام 1988  - حيث أذعن الخميني لقرار وقف إطلاق النار مُفَضِّلاً ( شرب كأس من السم ) على ذاك الإذعان – عزلة سياسية لنظام الأسد، إذ لم يبق بجانبه سوى حليفه القذافي، كما أورثت هذه العزلة أزمة اقتصادية خانقة يذكرها السوريون ممن عايشوا تلك الفترة، إلى أن بدأت أزمة الأسد بالانفراج مع بداية حرب الكويت وانضمام دمشق إلى التحالف الدولي.

لعل استيلاء إيران على العراق بكامل مقدّراته بعد الاحتلال الأميركي 2003، ونمو أذرع إيران في لبنان واليمن قد أيقظ المخاوف الخليجية من جديد، وأعاد إلى الأذهان فكرة تصدير الثورة التي لا يني قادة إيران من القرع عليها كلّما أتيحت لهم الفرصة، ويبدو أن سياسة الاحتواء، وإبداء حسن النوايا التي بادر بها الخليجيون لم تصمد أمام النزوع الإيراني نحو التوسع والهيمنة والتدخل بشؤون الجوار والمساس بأمنهم الوطني، فكان الانحياز الخليجي إلى جانب الثورة السورية – في جزء كبير منه – ضرباً من الرهان على إضعاف إيران، من خلال الإطاحة بنظام الحليف الأسدي، وخاصة أن الموقف الخليجي استند إلى الموقف (الإعلامي) لواشنطن التي أسقطت صلاحية الأسد لحكم البلاد، موازاة مع موقف تصعيدي حيال إيران في الوقت ذاته، إلّا أن موقف واشنطن مقروناً بموقف إسرائيل، لم يكن ثابتاً وحاسماً لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة في البيت الأبيض، فإذا كانت إدارة أوباما قد سعت منذ العام 2015 إلى إبرام اتفاق مع إيران بخصوص ملفها النووي، ضمن استراتيجية احتواء النفوذ الإيراني والسيطرة عليه بدلاً من المجابهة والتصعيد، فإن إدارة ترامب قد ألغت الاتفاق وعادت إلى لغة التحشيد الإعلامي حيال إيران، ثم ها هي إدارة جو بايدن تسعى من جديد لإحياء سياسة أوباما، بل ربما يتوقع الكثيرون أن تعود واشنطن إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران، مزامنة مع خطاب أكثر ليونة مع نظام دمشق، ضمن سياق الخطاب الأميركي المتكرر ( لا نريد تبديل نظام الأسد بل نسعى إلى تغيير سلوكه). ولعل هذه الالتواءات في الموقف الأميركي حيال إيران ونظام الأسد معاً، جعلت معظم الأنظمة العربية تخلد إلى اليقين بأن المواجهة بين واشنطن وإيران تمضي باتجاه المهادنة، وربما تنتهي إلى توافقات من شأنها أن تزيد من قوّة إيران وازدياد نفوذها وسطوتها أكثر مما سبق، وبالتالي فإن المطلوب هو اتباع سياسات أكثر تناغماً مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن هنا تصبح العودة إلى اللغة الناعمة مع إيران واستجداء الودّ منها كبديل عن لغة التصعيد، كما تصبح الدعوة إلى التعايش السلمي والحفاظ على علاقات حسن الجوار ومراعاة المصالح المشتركة هي الخطاب البديل عن الشكوى المتكررة من النزوع العدواني الإيراني، وبالتالي يصبح نظام دمشق هو البوابة المناسبة وربما الوحيدة لمخاطبة الودّ والرضا من إيران، وهكذا يتاح للأسد الابن أن يمارس الدور ذاته الذي مارسه الأسد الأب قبل أربعة عقود من الزمن، ولا يُستبعد أن تكون الخطوة الأردنية للتطبيع مع إيران من خلال الوسيط الأسدي هي المقدمة التي ستتبعها خطوات أخرى.

لعله من الصحيح أن الطيران الإسرائيلي يقوم باستهداف مواقع تابعة لإيران باستمرار داخل الجغرافية السورية، وكذلك تستهدف الطائرات الأميركية بين الحين والآخر بعض مواقع إيران في الشرق الأقصى من سوريا، إلّا أنه من النافل القول: إن جميع هذه المواجهات العسكرية لا تأتي في سياق مسعى أميركي إسرائيلي لاستئصال الوجود الإيراني في سوريا، بل من أجل تحجيم النفوذ الإيراني وجعْله تحت الأنظار، وهذا ما أسفرت عنه التفاهمات بين مسؤولي الأمن القومي لكل من روسيا وأميركا وإسرائيل في اللقاء الذي جمعهم في القدس المحتلة في شهر حزيران عام 2019 .

في ضوء الصراع العالمي الراهن والمواجهات الاقتصادية الكبرى المُتوقعة بين بين الولايات المتحدة والصين من جهة، وبين الروس وواشنطن من جهة أخرى، وكذلك في ضوء انهماك القارة الأوربية بمعالجة اقتصادياتها الشائخة، لا أحد يميل إلى الظن باحتمال مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وأيّ من القوى الدولية العظمى، مهما تفاقم تناقض المصالح بينهما، وهذا ما يعزز اليقين بأن مقاومة المشروع الإيراني في الدول العربية إنما هي مهمة منوطة بتلك الدول ذاتها، بشرط أن تمتلك منظومة متكاملة لأمنها الوطني تنبثق من مصالحها الوطنية وليست مستعارة أو مُلحقةً بالاستراتيجيات الخارجية، ولئن كان هذا التصوّر متعذّر التحقيق في الوقت الراهن، نظراً لارتباط الأمن الوطني في الكثير من الدول العربية بمظلات الحماية الأجنبية، فإن مقاومة الخطر الإيراني تبقى أولويات ثورات الشعوب العربية.

لعلها مفارقة مؤلمة للسوريين أن يشهدوا تهافتاً لدى بعض الأنظمة العربية لإعادة تعويم نظام دمشق عربياً، بحجة احتوائه وإبعاده عن إيران، وهذه ذريعة خادعة بل غاية في السذاجة، وخاصة أن الجميع يدرك أن عضوية العلاقة بين دمشق وطهران قد نبتت، ونمت، ثم ازدهرت بوجود آل الأسد في السلطة، ولن تنتهي أو تتقوّض إلّا بزوالهم.