إنها البداية الجديدة لبيروت؟

2020.08.09 | 00:02 دمشق

1596575471951502100.jpg
+A
حجم الخط
-A

أطنان من الزجاج المهشم المنثور في الشوارع والبيوت.. تلمع في العتمة كما في ضوء النهار. شظايا الزجاج على امتداد كيلومترات، تطايرت بسرعة البرق من مدينة بأكملها ومزقتها. بيروت بملايين الخدوش والجروح.

الغبار الغريب اللون. الغبار الرمادي الملطخ بالبرتقالي، كثيف وقاتم الذي ارتفع إلى أعالي السماء ثم هبط مغطياً المباني والوجوه والسيارات والشجر والشرفات، متغلغلاً إلى داخل الغرف، تحت الأسرة، في أواني المطبخ، على الأرائك، في كل مكان، بعدما باتت النوافذ مشرعة من غير زجاج. غبار الجريمة الكبيرة، الناعم والمخيف، وقد غلّف الفضاء والأرض.

أصوات صفارات سيارات الإسعاف بلا توقف، صفارات السيارات العسكرية أيضاً، صفارات الإنذار المندلعة من المكاتب والمتاجر والمصارف والشركات، ومن مئات السيارات في وسط المدينة المنكوبة، مستمرة لأكثر من يومين، ولا أحد يطفئها. أصوات تتحول إلى كابوس. مدينة تولول ليلاً نهاراً. أصوات تهدّ الأعصاب في اختلاطها الزاعق، حتى أن الطيور كانت تحلق مهسترة من هذا الزعيق العظيم الصاعد من آلاف أجهزة الإنذار.

الدخان الضئيل المستمر بالهبوب من بقايا حرائق ما بعد الانفجار، يعيد تذكيرنا باللحظة الأولى، اللحظة العاصفة، القيامية. دخان ضعيف يرمّد ما تبقى، كإصرار غامض على تكريس الدمار والاحتراق.

الوجوه الواجمة. الناس كلهم تحولوا في اليوم الأول إلى وجه واحد. أمحت ملامحمهم الشخصية، فوارق أعمارهم وألوانهم وسحنهم. جميعهم وجه واحد، كامد وواجم. وجه الأسى والغضب والتعب في آن واحد. وجه شمعي تقريباً. ليس هو الحزن ولا هو النقمة. بل أقرب إلى الاستسلام الذي لا يخفي الغيظ. وجه سكان بيروت كان هكذا على صورة مبانيها المشلعة، المنتهكة والبكماء.

الدم. نقاط الدم على البلاط.. بقعه الكبيرة في الشوارع وعلى الأرصفة. دم آلاف النساء والرجال والأطفال والشباب. دم يلطخ الأمكنة كلوحة شيطانية مرصعة بالغبار والزجاج والسخام والأحمر القاني الذي يسودّ ويتخثر في لهيب الصيف. دم يكثر الذباب ويفوح رائحة زنخة. دم مهدور في ثوانٍ.

ألمنيوم وحديد. قضبان وألواح ناتئة هنا وهناك، ملتوية "مبعوجة"، ممزقة ومشوهة. كأنها كائنات من معدن وقد انبثقت متحركة على نحو خرافي. أشلاء عمران وقد استبد به جنون ناري. وصبيان فقراء بعربات بدائية تم صنعها على عجل. مئات منهم يزحفون وينتشرون في وسط بيروت وفي الأحياء المنكوبة. ينقضّون على الغنيمة البخسة: بقايا الألمنيوم، بقايا الحديد الملتوي، خردة من كل شيء. فقراء وقد وجدوا كل هذا مرمياً على أرض المدينة.

البحر. المغدور بطعنة عميقة. المياه السوداء في الميناء. المياه التي ابتلعت الموت والسفن الغارقة والركام المتطاير.. المياه التي لا تجد ماء لتغسل نفسها من كل هذا الخراب والحريق.

بيروت 4 آب 2020. وأتذكر آب 1982. أطنان القنابل براً وبحراً وجواً. غارات على امتداد 16 ساعة بلا توقف. الدمار حينها كان حرباً. الدمار اليوم شر أعمى. لا عدو واحد.. بل مئات الأعداء اللامرئيين، والمعروفين جيداً.

احترقت بيروت، وتدمر وسطها عام 1976، ثم عام 1982. واليوم 2020. كل مرة كانت تخسر جزءاً من صورتها ومن أدوارها ومن سحرها الخفي.

ما نخافه ليس أن تموت، لكن تفقد روحها. أن تصير هكذا مجرد كتلة مبان كأي مدينة عربية عشوائية صامتة ممنوعة عن الحرية.

عندما كتبت السطر أعلاه، كان آلاف الشبان والصبايا، عشرات ألوف المواطنين، يتجمعون في وسط العاصمة. المواجهة بدأت. الحرية تستحق مدينتها.. إنه القضاء والقدر الذي نريده الآن. إنها البداية الجديدة لبيروت.

كلمات مفتاحية