إلى أي جحيم نمضي؟

2021.08.24 | 07:19 دمشق

8db0045dce99c62adbb8700b4e007769.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الأول من شهر "شباط" عام 1979 كانت أنظار العالم كله متجهة إلى "إيران"، ففي ذلك اليوم حطت طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية في مطار العاصمة "طهران"، كانت تلك الطائرة تقل الشخص الذي ما إن هبط سلمها حتى بدأ زلزال لاتزال ارتداداته تتوالى حتى اللحظة، ليس في إيران وحدها، بل في كامل المنطقة.

إنه "آية الله الخميني"، الذي استطاع بعد عشرة أيام فقط من وصوله أن يستولي على السلطة في إيران، والذي سرعان ما تنكّر لكل تحالفاته مع باقي فصائل المعارضة الإيرانية الأخرى المشاركة في حركة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها المدن الإيرانية ضد الشاه حينها، (في مقدمتها الجبهة الوطنية العلمانية التي التقى زعيمها "كريم سنجابي" بـ "الخميني" في باريس قبل عدة أشهر من عودته، ووقعا اتفاقاً حول صيغة الدستور القادم للبلاد على أن يكون دستوراً "ديمقراطياً إسلامياً")، فأقصىى هذه الفصائل في البداية، ثم اعتقل أهم كوادرها، ووصل الأمر في النهاية إلى اغتيال معظم قادتها الذين لم يفروا خارج البلاد.

الكلمة الأكثر دقة في وصف حصيلة ما يزيد على أربعين عاما أعقبت وصول "الخميني" في الطائرة الفرنسية هي "الخراب"، خراب تقوده عمامات سوداء

اليوم عندما نريد أن نقرأ ماذا حل بالمنطقة كلها بعد ذلك الزلزال، بدءا من الساحل الشرقي للمتوسط ووصولا إلى أفغانستان واليمن، فإنه من الأفضل أن نقرأ المسار العام، والنتائج الكبرى، والمصائر التي وصلنا إليها، وبهذا النحو يمكننا أن نفهم الأمر على نحو أفضل بكثير من قراءته على نحو متقطع، أو بدلالة أحداثه اليومية.

الكلمة الأكثر دقة في وصف حصيلة ما يزيد على أربعين عاما أعقبت وصول "الخميني" في الطائرة الفرنسية هي "الخراب"، خراب تقوده عمامات سوداء، ترفع شعاراتها الكاذبة، وتَعِدُ هذه الشعوب بالخلاص، لكن المفارقة الكبرى أن الناجي الوحيد من هذا الخراب هي "إسرائيل" على الرغم أنها الطرف الوحيد الذي هدده "الخميني" وثورته المزعومة بالخراب.

اليوم يتكرر المشهد "الخميني" بصورة أشد ابتذالاً في عاصمة مجاورة لطهران، وينشغل العالم كله بالمشهد "الطالباني" الذي تأتي  مشاهده من مطار عاصمة أخرى مجاورة لطهران، إنها "كابول".

في كلا العاصمتين، وفي كلا المسرحيتين كان المخرج الأميركي هو واضع سيناريو المشهد الأخير، ويبدو أن حضور "الكاوبوي الأميركي" لايزال راسخا في العقل السياسي الأميركي، لهذا جاءت مشاهد الفصل الأخير مليئة بالإثارة والدم والموت، ليس هذا فحسب، بل إن سيناريو المشهد الأخير هذا سيكون فاتحة لأعمال مسرحية أخرى لانهاية لفصولها، مسرحيات تعيد البشرية إلى قرونها الوسطى، وتقدم عرضا مشوقاً ومثيراً تموت فيه الشعوب بشكل فعلي على وقع تصفيق حاد من المشاهدين.

في سقوط طهران، ثم سقوط بغداد، وصنعاء، وبيروت، ودمشق، و..و.. وصولا إلى حلقة سقوط "كابول" ثمة ركيزتان أساسيتان في كل تفاصيل هذا الكابوس الطويل، تتجلى الأولى في الاستبداد المعمم الذي وسم الحياة السياسية في هذه البلدان بعد وصول "العسكر" إلى موقع السلطة، والثانية في استثمار الدين في السياسة، وتحوّل رجال الدين إلى واجهات سياسية تدعم الاستبداد وتنتجه، ركيزتان لا تزالان حتى اللحظة تفتكان بهذه المنطقة، وتضعانها، ومعها شعوبها، أمام مصير غامض ومجهول، ويرغمنا جميعا على مواجهة السؤال الذي يرمي بثقله الباهظ فوق هذه البقعة من العالم: إلى أي جحيم نمضي؟

أي رعب، أو يأس يدفع شخصا ما للتعلق بجسم طائرة تستعد للتحليق، وأي سوريالية مجنونة يمكنها أن تتخيل هذه الأجساد المتساقطة من السماء

تكثف الصور القادمة من مطار "كابول" إلى حد مدهش حقيقة ما يجري، وما ينتظر هذه البلاد، ليس في أفغانستان فقط، بل في كل هذه الأوطان المنتهبة والمنكوبة والمتشظية، صور تدمي القلب، ويصعب تصديقها.

أي رعب، أو يأس يدفع شخصا ما للتعلق بجسم طائرة تستعد للتحليق، وأي سوريالية مجنونة يمكنها أن تتخيل هذه الأجساد المتساقطة من السماء.

لم يكن مشهد السقوط المرعب لمن حاولوا الهرب من موت قادم محتم، مجرد سقوط مؤكد لأشخاص يائسين ارتكبوا حماقة التعلق بجسد طائرة، إنه بكل وضوح سقوط مدو للبشرية، سقوط مريع لقيم وأفكار الحرية والديمقراطية، إنه سقوط كامل لنظام عالمي فاجر يتحكم في هذا العالم، ويعبث بهذه الأرض وبمصيرها ومصير شعوبها، إنه تعبير شديد البلاغة عن الرؤية الأميركية للعالم، وللبشرية.

لا يمكن أن نجد جوابا أشد وضوحا على السؤال الفاجع: إلى أين نمضي؟ من ذلك المنظر الصادم والذي هزَّ العالم كله، منظر الفوضى العارمة لآلاف الأفغان المحتشدين خارج مطار كابول، في محاولة يائسة للهروب، وفي وسط كل هذا الجحيم نرى صور أطفال رضع ترفعها أيدي أمهاتهم اليائسات فوق الأسلاك الشائكة، مستجدية أذرع الجنود أن تنقذها.

هذا ما فعله المجتمع الدولي بالشعب الأفغاني، وهذا ما فعله المجتمع الدولي بالشعب اليمني، وبالشعب العراقي، وبالشعب السوري. وما سوف يفعله بشعوب أخرى، إن لم تستطع هذه الشعوب أن تحطم ركيزتي هذه المعادلة، فتنهي حكم العسكر، وتخرج الدين من حقل السياسة، وإلا فإن مشاهد أطفال العراق المحاصر وهم يموتون جوعا، ومشاهد المرض والجوع التي تفتك باليمن، ومشاهد السوريين وهم يغرقون أمام مرأى العالم في هروبهم اليائس من حليف "الخميني" في دمشق، ومنظر أطفالهم وهم يختنقون بغازات سامة أطلقها عليهم مجرم العصر، وصور ضحايا التعذيب التي تصفع بكل قسوة ضمير البشرية، وصور طوابير الجوعى في سوريا وبيروت...الخ سوف تستمر.

منذ زلزال "الخميني" المدمر، ونحن نعيش على وقعه، ووقع هزاته الارتدادية، فماذا ينتظرنا اليوم بعد زلزال "طالبان" الجديد؟