إلا أنّ بعضهم أكثر تساوياً من بعضهم الآخر!

2023.03.06 | 05:53 دمشق

إلا أنّ بعضهم أكثر تساويًا من البعض الآخر!
+A
حجم الخط
-A

يُنظر إلى الحريّات في الغرب عادة على أنّها واسعة جدًا ومتجذّرة، وهذا صحيح، لكنّه ليس بالمطلق، فالحريّة تتحدّد باعتباراتٍ كثيرةٍ مثل ملكية رأس المال وتأثير التاريخ وحضور الأديان والمعتقدات عمومًا، لكن يبقى أهمّها اعتبارات السياسة. فطبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة الأميركية مثلًا، تقوم بشكل رئيس على مبدأ الحريّة الفردية، وهذا يستتبع بالضرورة حرية التملّك، وقد يؤدي في مجالات محددة للتضارب مع مبدأ المنافسة المشروعة ومع مبدأ منع الاحتكار. فمن يمتلك رأس المال قادرٌ على توجيه الصحافة أو الإعلام مثلًا في قضايا جوهرية، بعيدًا عن التفاصيل. بينما بالمقابل، يجد أصحاب المواقف الأخلاقية مثل المدافعين عن حقوق الأقليات أو الفئات المهمّشة أنفسهم عاجزين عن نشر آرائهم، حتى ولو كانوا مفكرين أو أدباء أو علماء إذا ما تعارضت مع النظرة السائدة في المجتمع والقوى المسيطرة في الاقتصاد والسياسة. إنّه قانون القوّة بجميع أشكالها والمدجّج بالسلاح، مقابل قانون الأخلاق المجرّد من أدوات العنف، إلا من نوازع ضميرية لا يعوّل عليها كثيرًا في أرض الواقع.

الحاكم الفعلي هو من يستطيع الوصول إلى قناعات الناس، فيجعلها في خدمة مصالحه، وهذا ما يفعله الساسة نيابة عن أصحاب رؤوس الأموال

تختصر مقولة من يملك يحكم، فعليًا الواقع في البلدان الديمقراطية، فالمساواة بالحقوق والواجبات أمام القانون لم تقرب الحقل الاقتصادي والملكية، وبقيت مقتصرة على قضايا التمثيل السياسي والمساواة أمام القانون والاقتراع وغيرها، ولا أحد يفكّر في تغيير هذا النمط القائم على المنافسة الحرّة، حتى ولو تجاور في بلد مثل كاليفورنيا عبور الطريق، مالكُ شركة مايكروسوفت أو أمازون أو غوغل، مع مشرّدي الشوارع الذين لا يملكون سوى تسامح السلطات مع استخدامهم الأرصفة للمبيت عليها. الحاكم الفعلي هو من يستطيع الوصول إلى قناعات الناس، فيجعلها في خدمة مصالحه، وهذا ما يفعله الساسة نيابة عن أصحاب رؤوس الأموال، وتساعدهم فيه الصحافة والإعلام وحتى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. طبعًا لا يعني ذلك أنّ البديل هو الديكتاتورية، فالمقارنة هنا غير واردة إطلاقًا.

يستلهم هذا المقال تجربة الزميل ربيع بركات مع مجلّة (DW- Deutsche Welle) التي يمكن ترجمتها إلى العربية تحت مسمى (الموجة الألمانية). فقد دخل في جدال مع المجلّة بعد أن امتنعت عن توقيع عقدٍ معه لإنجاز الشروط الشكلية النهائية لعملٍ سبق أن أنجزه لمصلحة ذراعها التدريبية (DW Akademie)، وذلك بحجّة "معاداة الساميّة" و"التحريض على العنف" باعتباره قد نشر على صفحته الشخصية في فيسبوك، صورة مرسومة للمناضلة الفلسطينية ليلى خالد، على جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل لفصل الضفة الغربية وعزلها عن بقيّة التراب الفلسطيني. الصورة المرسومة تُظهر ليلى خالد مبتسمة واثقة وهادئة، وتحمل في يدها بندّقية كلاشينكوف. ومعروفٌ أنّ ليلى خالد كانت واحدة ممن شاركوا في عمليّة فدائية عام 1969 تحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأدّت إلى اختطاف طائرة إسرائيلية، بهدف لفت أنظار العالم آنذاك لأحقيّة القضية الفلسطينية وعدالتها.

حاججت إدارةُ المجلّة بأنّ نشر هذا الرسم، ولو كان قد تمّ على صفحة ربيع الشخصية، إلا أنّه يخرق القواعد المتعارف عليها في المجلّة، وأنّه لا يراعي خصوصية المسألة اليهودية وعقدة الذنب الألمانية من المحرقة، بل ويتبنى خطابًا يحضّ على العنف! فضّلت المجلّة عدم إتمام عقدٍ سبق أن أنجز المتعاقد الآخر (ربيع) محتواه، على أن تقع فريسة الضغوط الإسرائيلية والصهيونية، وهذا ما تبيّن لاحقًا من خلال السجالات التي خاضها ربيع مع إدارة المجلّة وكتب عنه أكثر من مرّة. كان الموقف برمّته هزليًا وغريبًا، بقدر غرابة أن ترى المجلّة، وهي من كبريات المنصات الإعلامية في ألمانيا وأوروبا، الصورة المرسومة على الجدار دون أن ترى الجدار ذاته، إنّها مقارنة أشدّ وضوحًا من تلك التي تشير إلى الفيل القابع في الغرفة ولا يراه أحدٌ من المتحاورين الباحثين عن مصدر الضجيج الهائل فيها!  لكنّ المسألة أعقد من أن تُختزل بمقارنات منطقية ومغالطات مماثلة، إنها حقيقة أنّ الحريات تبقى محكومة بسقوفٍ متعددة تدنو وترتفع بحسب طبيعة الخطاب والمخاطب، أو بحسب الموضوع الذي تقاربه أو تدور حوله الحريّات هذه.

من حق السوريين إعادة النظر في الصورة الذهنية للمناضلة ليلى خالد، مع التضامن الكامل بكل تأكيد مع ربيع وحقّه فيما يعتقد وينشر

مع ذلك كلّه، وبالنظر إلى تداخل السياسي بالأخلاقي، ورغم أنّ صورة ليلى خالد باتت مطبوعة في الضمير الفلسطيني والعربي أيضًا رمزًا للمقاومة والنضال ضدّ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلا أنّ مقاربة السوريين لمواقفها من نظام الأسد وحليفه الإيراني، تكاد تقترب من موقف الألمان من نشر صورتها المرسومة على الجدار في صفحة ربيع الشخصية على فيسبوك، رغم اختلاف الظروف والمعطيات والسياق والمرجعيات. أليست هي من قالت: "سوريا حققت انتصارًا ونعتز بها كجزء من محور المقاومة، لولا انتصارها ما حقق الفلسطينيون هذا النصر.. لما تقولوا تحيا سوريا (وهي تقصد سوريا الأسد بالطبع) يعني انتوا عم تقولوا تحيا فلسطين... وأقول لقاسم سليماني أنت ابن فلسطين وفلسطين لا يُمكن أن تنسى". إذا كنّا نلوم المجلّة الألمانية على مفاضلتها بين سرديّتين بعيدتين كلّ البعد بعضهما عن بعض، حتى تتمكن من الخروج من مأزق ليس مبتوتًا ولا مُسلّمًا في صحته أساسًا (الربط بين معاداة السامية ومقاومة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي)، فإنّه من حق السوريين إعادة النظر في الصورة الذهنية للمناضلة ليلى خالد، مع التضامن الكامل بكل تأكيد مع ربيع وحقّه فيما يعتقد وينشر، ومع حقّه في عدم الخضوع للتمييز السلبي الذي مورس ضدّه اعتباطًا بالاستناد إلى مخالفات واضحة للحريات المصانة بالدستور الألماني.

ثمّة مقولة منسوبة للكاتب جورج أورويل تقول: "الناس متساوون.. لكنّ بعضهم أكثرُ تساويًا من غيرهم"، وهي تعبّر عن منطق المفاضلة القائم على مبدأ المغالطات المنطقية، فهي تفترض شيئًا صحيحًا من حيث المبدأ، لكنّها تنقضه في نفس الفرض باستخدام عنصر يبدو ظاهريًا منتميًا إليه، لكنّه في الحقيقة لا يمكن أن يجتمع معه. هذا هو منطق حسن نصر الله بالمناسبة عندما يخاطب جمهوره قائلًا: "يا أشرف الناس" وذلك بعدما تأخذه الحماسة في الخطاب، فينسى أنّه غالبًا ما يبدأ خطاباته متوجهًا للبنانيين جميعًا، وأحيانًا للعرب والمسلمين، وأنّه دائمًا ما يتواضع أمامهم مخاطبًا إياهم بصفة الشرفاء. هكذا يكون الناس شرفاء، لكنّ حسن نصر الله وجماعته أشرف من الناس. وبالعودة إلى موضوع التضامن مع ربيع بركات، وموضوع الحريات عمومًا، نجد أنّ ربيعاً متساوٍ مع ليلى ونصر الله وإدارة مجلّة (DW)، لكنّهم أكثر تساويًا منه في كثيرٍ من الأمور!