إكسبو دبي وصهاينة الداخل السوري

2021.10.06 | 06:00 دمشق

image-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم أعد أتذكر في أي عام كان الفنان السوري جهاد سعد مشاركا في مهرجان مسرحي في إيطاليا (لم يسعفني جوجل أيضا بالأمر)، حين التقط له أحدهم صورة وهو يقف بالقرب من أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي المشارك في المهرجان نفسه، أتذكر أن الصورة انتشرت يومئذ في الصحف السورية (الثلاث)، وتم تكليف بعضهم بكتابة مقالات تشتم جهاد سعد، وتطالب بمحاكمته، وتتهمه بالخيانة والتطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولم يهدأ الموضوع إلا بعد مدة طويلة وتدخل (الجهات المختصة) لوقف الحملة على الممثل السوري الذي ربما كان واقفا مصادفةً بجانب المشارك الإسرائيلي.

دائما وأبدا في سوريا (الأسد والعروبة) كانت تهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي هي أول الاتهامات الأمنية التي توجه ضد من يتفوّه بحرف واحد ينتقد فيه نظام الأسد

ممثل سوري آخر هو مهند قطيش سجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة التجسس لصالح العدو الإسرائيلي، وعوملت عائلته (زوجته وقتئذ الممثلة قمر خلف وابنته) خلال مدة حكمه بتنمّر مخيف من قبل السوريين، حيث أطلق عليهم لقب (عيلة الجاسوس)، وأطلق سراح مهند بعد ثلاث سنوات وتبين أن تهمة الجاسوسية للعدو الإسرائيلي قد لفّقت له تلفيقا، أمّا التهمة الأساسية فهو كتابته مقالا ينتقد فيه الأوضاع السياسية في موقع إلكتروني في الإمارات العربية المتحدة.

دائما وأبدا في سوريا (الأسد والعروبة) كانت تهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي هي أول الاتهامات الأمنية التي توجه ضد من يتفوه بحرف واحد ينتقد فيه نظام الأسد، التهمة التي سرعان ما تصبح متبّناة من قبل غالبية السوريين ضد معارضي نظام الأسد أو منتقدي سياسته، فمفردة معارض تعني خائناً في الوعي الجَمعي السوري، ومفردة خائن تعني متعاملاً مع العدو في نفس الوعي، وظهر هذا واضحا مع انطلاق الثورة السورية، حيث كانت تهمة العمالة لإسرائيل هي واحدة من أكثر التهم ترويجا لدى مؤيّدي الأسد ضد معارضيه، وذلك قبل أن تظهر مفردة الإرهابيين، التي احتلت مساحة كبيرة في المنطوق الشعبي المؤيد للأسد حتى هذه اللحظة.

عاش السوريون منذ تشكيل الدولة السورية وتكوين المجتمع السوري، وهم في حالة عداء فطري لكل ما يمتّ للعدو الإسرائيلي بصلة، انعكس هذا حتى على العلاقة مع اليهود كطائفة ودين، استطاعت الأحزاب القومية (البعث والسوري القومي وغيرهم من الأحزاب القومية) تعزيز هذا العداء لدى الشعب، الذي تسامح مع كل ما حصل له من انتهاكات لحقوقه ولمواطنته تحت بند (مقاومة العدو الإسرائيلي) و(القضية العربية المركزية)، لم يدفع شعب عربي ثمن هذه القضية أكثر مما دفعه السوريون، ليس فقط من شهدائهم الذين حاربوا في الحروب الثلاثة ( 47/ 67، 73)، أيضا من استشهد منهم في لبنان إبّان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ومن استشهد إثر انخراطه في حركة المقاومة الوطنية، هذا عدا ضريبة المجهود الحربي التي لايزال السوريون يدفعونها من دخلهم حتى اللحظة، وعدا قمع الحريات والأصوات المخالفة إذ (لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة) مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة التي اعتمدتها كل الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، إذ كانوا يدركون أن المعركة المفترضة لن تنتهي يوما، ويدركون أن الشعوب العربية هي شعوب عاطفية، ولديها ميل فطري للعداء لإسرائيل مغذى بالدين واللغة والتاريخ والجغرافيا، قبل الحدود التي وضعها الاستعمار القديم.

هذا الوعي الجَمعي لرفض كل ما يتعلق بإسرائيل هو ما جعل كثيراً من المبدعين السوريين يرفضون دعوات للمشاركة في فعاليات ثقافية في دول العالم بسبب مشاركة وفود إسرائيلية فيها، ليس فقط خوفا من العقاب الأمني، بل هو رفض نفسي  للوجود بالقرب من العدو أو مشاركته في أي شيء، ولا يختلفون في هذا عن باقي أفراد الشعب، ذات يوم في 2013 كنت مع والدتي نجلس في مقهى في باريس ونتحدث عن الثورة، وكان يجلس إلى طاولة بجانبنا شاب أربعينيّ تقريبا يستمع إلى حديثنا، التفت إلينا وعرّف عن نفسه بالإنكليزية: "راؤول من إسرائيل أعرف العربية جيدا وسمعت الحديث وأريد أن أسأل عما يحدث في سوريا"، ترجمت لوالدتي ما قاله فنظرتْ إليه بغضب قائلة: (أنا ما بحكي مع عدوّي)، وطلبت مني بشكل حاسم الانتقال إلى مكان آخر، كان سلوك والدتي عفويا ومباشرا ودون تفكير، بالنسبة لها ولملايين السوريين لطالما كان الإسرائيلي عدوا رئيسيا، الثورة التي كان يتم الفتك بشبابها السوريين من قبل النظام وحزب الله (المقاوم) لم تستطع نزع تلك البديهية من عقلها الباطن، وأجزم أن كثيراً من السوريين كانوا سيتصرفون بنفس ردّة فعلها العفوية لو كانوا مكانها.

كان النظام وحزب الله يحتفظان بحق الرد الذي حين يأتي سيكون ضد السوريين الذين لم يتورع أبواق النظام في سوريا ولبنان عن تسميتهم (صهاينة الداخل)

على أن ما حدث خلال العقد المنصرم في سوريا، جعل السوريين يعيدون طرح ما كان بديهيا ومناقشته، فالحزب الإلهي الذي كانت رايته وصورة زعيمه موجودة في غالبية البيوت السورية بوصفه أول المقاومين وأكثرهم جذرية، انكشف عن حزب طائفي يؤجر بندقيته لصالح إيران وما تريده، توجهت أسلحة الحزب إلى صدور السوريين، مثلما توجهت صواريخ وبراميل الموت التي يطلقها النظام السوري (رمز الممانعة والمقاومة) إلى بلدات وقرى وبيوت السوريين، الأسلحة التي استخدمت في حرب النظام وحلفائه ضد الشعب السوري كانت لتحرر فلسطين شبرا شبرا لو وجهت إلى العدو الإسرائيلي، ليس هذا فقط: خلال السنوات الماضية استباحت إسرائيل سماء سوريا لأكثر من عشرين مرة، وقصفت مواقع عسكرية في قلب سوريا، ومع ذلك كان النظام وحزب الله يحتفظان بحق الرد الذي حين يأتي سيكون ضد السوريين الذين لم يتورع أبواق النظام في سوريا ولبنان عن تسميتهم (صهاينة الداخل).

شيء آخر أيضاً: إحدى الشخصيات السورية التي قابلت بشار الأسد في أول الثورة لمحاولة الوصول إلى حل يجنب سورية الكارثة المحتملة حكت عن جملة قالها بشار الأسد في اللقاء إياه: (أميركا لن تتدخل لتضرب سوريا كما فعلت في ليبيا، وإسرائيل لا تريد إسقاط النظام) قالها، بحسب الشخصية المتحدثة، بحسم وبثقة شديدة، كان هذا في 2011، نحن الآن في 2021 وكل ما حدث خلال السنوات العشر السابقة يثبت ما قاله رئيس النظام السوري بالحرف، وأظن أنه حتى أشد المؤيدين له باتوا يدركون هذا في قرارة أنفسهم لكنهم ما زالوا يرفضون الاعتراف بذلك.

حسناً، الدولة التي كانت تعاقب من تظهر صورة له مع أي إسرائيلي في أي مكان في العالم، بوصفها (دولة ممانعة ومقاومة) ومعركتها مع العدو الإسرائيلي معركة (مصير)، هاهي تشارك علنا وبكل فخر في معرض إكسبو في الإمارات العربية المتحدة، بجناح أنيق مجاور للجناح الإسرائيلي في نفس المعرض، من دون أن تكلّف نفسها وتقدّم أي تبرير لشعبها (المفيد) في الداخل السوري، إذ على ما يبدو أن ثمن تبييض صفحة نظامها وإعادة تطبيع العلاقات معها، والذي بدأ مع الإمارات والأردن، ولا أحد يعرف من سينضم من دول العرب والإقليم أيضا، هو معاهدة سلام من نوع ما مع (العدو الإسرائيلي) أو بالأحرى كشف ما كان يحدث تحت الطاولة وإخراجه إلى العلن، ووضعه فوق مفرش دماء السوريين منذ تأسيس دولة سوريا وحتى الآن! هل سيخبرنا أبواق النظام والمقاومة الآن من هم (صهاينة الداخل)؟!