إقلاع وهبوط: سيرة طبيب من رأس بيروت

2020.05.29 | 00:03 دمشق

c0c039f7-7eee-4697-832d-ce9a021be024.png
+A
حجم الخط
-A

يتطلع منير شماعة حوله ويرى أصدقاءه في عمر الشيخوخة يسجلون ذكرياتهم وسير حياتهم، ففي البناية التي يسكنها كتب يوسف سلامة مذكراته، وصديقته جين مقدسي كتبت قصتها في "شتات بيروت" عن الحرب الأهلية اللبنانية، وصديقة وزميل دراسته هشام شرابي كتب سيرة حياته "الجمر والرماد"، وهناك سبب آخر يدفعه لكتابة مذكراته، وهو أن الإنسان في عمر الشيخوخة تتقلص نشاطاته ويبدأ الفراغ يلعب بالأعصاب، ولتفادي هذه الآفة يلجأ لكتابة سيرة حياته.

ولد منير شماعة في 6 مايو/أيار 1928، وعندما كان طفلاً كان يتصفح مجلة لسان الحال واللطائف المصورة، ورأى في تاريخ 6 مايو/أيار ذكرى المذبحة التي اقترفها جمال باشا، وممن أعدمهم بيتر باولي وله مسكن في نفس شارع الكاتب، وكان احتفاله بمولده يذكره بالمشانق لذلك غير تاريخ مولده إلى يوم 21.

وتعرف الطبيب منير شماعة إلى رفاق جورج حبش، مثل وديع حداد الذي كان أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

قصة منير شماعة بسيطة وصادقة، هو طبيب نال شهادة الطب وعمل في السعودية فترة بسيطة وسافر إلى أمريكا والتحق بأحد المعاهد المرموقة التابعة لهارفارد وعاد إلى بيروت وعمل طبيباً وألقى المحاضرات في الجامعة الأميركية في بيروت، واتصلت أسبابه مع أحد الأمراء من آل سعود، وأصبح طبيباً للأسرة الحاكمة، وعالج العديد من الرؤساء والسياسيين، وعاش في لبنان في فترة الحرب الأهلية وتعرض للخطف ذات مرة حتى يبادله خاطفوه بشخص في الكتائب اللبنانية. هذه أبرز أحداث الكتاب، عندما انتهيت منه جلست أفكر لماذا أعجبتني قصته؟ الإجابة بسيطة: الصدق في الكتابة عن النفس، وهو تفسير صار لكثرة استخدامه مبتذلاً ولا يوفي معناه الحقيقي. الكاتب يتناول قصة حياته ويكتب بياناً عن نفسه مفسراً دوافعه وأفكاره، ولا يخجل من إظهار ضعفه أحياناً، أو الإعلان عن أشياء يراها الناس خاصة جداً مع القليل من الاعترافات التي تعطي السيرة نكهة وتوابل.

 يحكي لنا منير عن علاقته بالقوميين العرب في بيروت، وكيف تعرف على الحكيم جورج حبش، وكانت صداقته في البداية مع حبش عادية لم يتخللها حديث سياسي، كانا يتناقشان في مواضيع دراسية في كلية الطب أو يستمعان إلى الموسيقى، ثم وقعت كارثة 1948 وسافر جورج حبش إلى فلسطين وعندما عاد أخبرهم بالمسيرة الطويلة من بلدته اللد، وهو يحمل على كتفه طفلة شقيقه التي ما لبثت أن فارقت الحياة، وما هي إلا أيام حتى انضم جورج حبش إلى كتائب الفداء العربي التي كانت تتدرب على حمل السلاح. لا ينسى منير جلساته مع جورج حبش وهو يردد بتأثر عميق "يا منير، إنني من اللد وأريد الرجوع إليها بأي ثمن، هذا حق بسيط لأي إنسان في وطنه".

وتعرف الطبيب منير شماعة إلى رفاق جورج حبش، مثل وديع حداد الذي كان أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمسؤول العسكري البارز الذي أزعج إسرائيل كثيراً بعملياته الجريئة مثل خطف الطائرات. سافر منير إلى الجزائر ليعالج وديع حداد وكان التشخيص المبدئي أنه مصاب بسرطان في غدة البنكرياس، ثم أثبتت الفحوصات خلوه من السرطان، وكان منير يشك في كون وديع مصاباً بالتسمم بالزرنيخ، وتحدث مع هاني الهندي وأخذ عينة من شعر وديع حداد للتأكد من الأمر، وبالرغم من أنه لم يجد أثراً لمادة الزرنيخ في العينة، إلا أنه يعتقد أن وديع حداد مات مسموماً. كانت مشاعر منير شماعة تجعله يرتبط بالجبهة الشعبية عبر جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، وقد قام بتوفير المساعدات المالية لهم كلما أتيح له ذلك، وتحمل عقبات ذلك مثل المنع من دخول السعودية عدة سنوات، وكذلك المنع من دخول الأردن.

يحكي منير شماعة في سيرته أنه كان يرى نفسه في مراهقته وبداية الشباب في غاية البشاعة، ولا يستطيع جذب الجنس اللطيف نحوه، وفي يوم حاول مغازلة فتاة فقالت له: "يا منير، إنت ذكي ومهضوم، بس ياريتك كنت أحلى من هيك"، وهذه الحادثة تركت في نفسه أثراً وجرحاً نرجسياً، وأخذ وقتاً حتى يجدد ثقته بنفسه. يستعرض لنا تكوينه النفسي ونظرته للمرأة، وعندما حاولت معرفة سبب إعجابنا بالسيرة، التي يقول صاحبها ما يخفيه الإنسان عادة عن حياته الخاصة، أرجعته إلى حب التلصص. نحن نحب أن نرى ذلك الطبيب المهاب وصاحب الشأن يعاني مثل الآخرين ويحتال، وأحياناً يعترف بلهوه البريء وغير البريء، وبسعيه الحثيث وراء المرأة ليستعيد ثقته بنفسه وليثبت لنفسه أنه وسيم وليس دميماً. وهذا الفصل لا يمكن تلخيصه: هي حكايات تقرؤها وتفكر فيما يطرحه فيها، فهو مثلاً يحلل مفهوم الحب وهو في عمر السبعين، ويعترف بأنه يجهل تعريف العشق ولم يختبر هذا الشعور طوال حياته.

يشاركنا الكتاب أسئلته التي أرقته وفكر فيها، مثل سؤال الإيمان بالله وسؤال هل هو مثقف أم لا، وتساءل كثيراً عن الطبيعة البشرية وهل هو طيب ومحب وكريم أم أن هذه الصفات قشور تغطي بعض العيوب لديه. والتساؤل الذي فكر فيه كثيراً: هل له ثمن يمكن أن يشرى به ويباع؟ ويشرح لنا الأجوبة التي فكر فيها، ولا أريد أن أنقل الإجابات فهي تشرح شخصيته بشكل أوضح عندما نقرأها في المذكرات.

من الفصول الممتعة في الكتاب قصة الكاتب مع السعودية وعمله فيها طبيباً عام 1952 في شركة الأنابيب الأمريكية التابلاين ومعاناته في العمل مع الأمريكان وعجرفتهم، والمرحلة الثانية التي تعرف فيها على بعض الأمراء، وفي السعودية أسلم بسبب عبارة من رجل بدوي، فلقد جاء الرجل البدوي بابنه المريض وعندما فحصه الطبيب وجده جثة هامدة وأبلغ الأب، فلم يكن من الأب إلى أن قال: الحمد لله. وتعجب منير من هذه الكلمة في تلك اللحظة الحرجة، وردد الرجل عبارة "الحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه"، وقال منير: ماذا قلت؟ فأعاد الرجل البدوي العبارة وسأله: من أين لك بهذا القول؟ وانبهر بالعبارة وترقرقت عيناه وأسلم. كان منبهراً بالدين الإسلامي وكيف يتعامل مع فلسفة الموت بهذا الرضا والتسليم.

أما قصة تعرفه على الأمراء، فلقد كانت تزوره سيدة فقيرة للعلاج وكان يهتم بها، ثم ذهبت تلك السيدة لطلب الصدقة في شهر رمضان من بيت الأميرة السعودية أم خالد زوجة الملك سعود بن عبد العزيز التي كانت تصطاف في لبنان. وأبلغتها الأميرة أنها مريضة وأن عليها العودة لاحقاً، وكان رد السيدة البسيطة "بيوجعك بطنك وما شفتي الدكتور شماعة بعد؟ هيدا بيعمل عجايب". وتعجبت الأميرة من هذا الاسم لطبيب مغمور وهي تتعالج على يد أشهر أطباء بيروت، وطلبت السفارة السعودية منير، وذهب إليهم وتوطدت العلاقة بينه وبين الأسرة، وسافر إلى الرياض ليعالج الملك سعود. وفي شهر واحد انتقل من طبيب مبتدىء إلى طبيب يعالج الملوك، وكما يقولون باللهجة اللبنانية "كرَّت المسبحة".. يصف لنا منير شخصية الملك سعود وكرمه، واختلاف شخصية الملك فيصل الذي عالجه بعد ذلك، فالملك فيصل كان رجلاً كتوماً قليل الكلام، مواعيده صارمه، ولا يدخل في نقاش مع طبيب إلا فيما يتعلق بمشاكله الصحية، ولا يزيد في الأجرة عن الفاتورة إلا ساعة رولكس تكون هدية. على عكس الملك سعود الذي أعطاه من الهدايا الكثير، وبعد معاينة الملكين ذاع صيته وتعرف عليه الكثير من الأمراء، مثل الملك عبد الله بن عبد العزيز، والأمير سلطان وغيرهم.

من الطريف أن تكون طبيباً لشخصيات بعضها لم يغيرها المنصب، وبعضها مثل رئيس عربي سابق شعر بالاكتئاب فنصحه الطبيب منير شماعة بمطالعة كتب التاريخ في مكتبته الفخمة، فرد عليه بسخرية واستخفاف: "يا ابني، أنا لا أقرأ التاريخ، أنا أصنع التاريخ!"

عاش كاتبنا حياة غنية بعلاقاته الإنسانيه، فهو يصف لنا حياته في أمريكا وتغير حياته بعد هزيمة 67، وحبه للقضية الفلسطينية وكرهه للطائفية ويشرح في لفتات من النقد الذاتي القاسي الشخصية اللبنانية، ويحكي قصة اختطافة بأسلوب جميل ومؤثر وكيف تغيرت نظرته للحياة بعد خطفه وتدخل الشيخ فضل الله لإنقاذه من الخاطفين، والعديد من الحكايات الأخرى التي يقرؤها القارىء ويفكر مع الكاتب فيها مثل حديثه عن الشيخوخة.

عمل منير شماعة في الطب أتاح له الاحتكاك بالبسطاء من المرضى وكذلك معالجة ذوي الشأن من المسؤولين والسياسيين، وهذه المهنة جعلته يرى الإنسان على حقيقته العارية دون غطاء، فالملك والوزير والقائد وغيرهم من أصحاب القرار إذا تعروا يصبحون كغيرهم من الناس، وينقلبون من رجال يصعب الوصول إليهم إلا بعد عناء وحواجز إلى أناس عاديين، وتنزع الأقنعة التي يستتر بها الإنسان وتظهر مخاوفه، وترى أن الرجل المهم الذي يبدو لنا كالحصن المنيع أو الجبل الشامخ ما هو إلا إنسان له قدرة على الضحك والخوف والألم والقلق من المجهول، وينصاع كالتلميذ الطائع لما يقوله له المعلم، ومن الطريف أن تكون طبيباً لشخصيات بعضها لم يغيرها المنصب، وبعضها مثل رئيس عربي سابق شعر بالاكتئاب فنصحه الطبيب منير شماعة بمطالعة كتب التاريخ في مكتبته الفخمة، فرد عليه بسخرية واستخفاف: "يا ابني، أنا لا أقرأ التاريخ، أنا أصنع التاريخ!"