إعلام النظام وافتراس كرامة السوريين

2022.12.06 | 06:01 دمشق

إعلام النظام
+A
حجم الخط
-A

يريد بعض إعلام النظام أن يجد لنفسه مساحة بين السوريين، من خلال إظهار سطور من معاناتهم، وادعاء سعيه لمتابعتها.

هذه الخطة ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل جزء من إرث وسائل الصحافة السورية، طوال العقود السابقة، وتدل على هذا برامج شهيرة ظهرت لسنوات في الإذاعة والتلفزيون الرسميين، كانت تقوم على بث شهادات الجمهور حول مشكلات محددة، ثم التوجه إلى حوار المسؤولين عن القضية، ومحاولة إيجاد علاجها، كان ينتهي بطلب المدير المعني من المواطن صاحب القضية مراجعته لحل مشكلته.

المكاسب الكبيرة في مثل هذا النمط البرامجي بالنسبة للإعلام الرسمي، كانت هي إظهار عمله ملتصقاً بمشكلات الناس، وفي الجانب الخلفي، اتباع طريقة لتنفيس الاحتقان، وادعاء القدرة على النقد والفعالية!

وفي الوقت نفسه إظهار أن المشكلات فردية قابلة للعلاج، عبر تدخل المعنيين، ونزع الفتيل عن المشكلة الجماعية المتكررة، والتي يعرف أنها جزء من عطب  المنظومة كلها!

في الجوانب الترفيهية، يتذكر جمهور القنوات التلفزيونية وكذلك المحطات الإذاعية ذلك التقليد المتبع في شهر رمضان الكريم، حينما تُصنع برامج قصيرة ينزل خلالها المذيع إلى الشارع كي يسأل الجمهور أسئلة، يربح من يجيب عليها دعوة إفطار إلى مطعم ما، جاعلاً من الطعام مكافأة للفائزين!

لم تتطور العقلية المنتجة للبرامج في مؤسسات المرئي والمسموع التابعة للنظام أو تلك التي تدور في فلكه، طوال العقد الماضي، لا بل تدنت، وصارت أكثر رداءة، خاصة وأنها بسبب الموقف العام للسوريين الكاره للنظام ومؤسساته، دائماً ما ظهرت تنطق باسمه وبصوت رجالاته، ليس في الجوانب الحادة كالحديث عن "الحرب الكونية" أو "الأعمال الإرهابية" أو "الفورة" (هذه المصطلحات الأثيرة في هذه المؤسسات) فقط بل حتى في الشؤون اليومية، أي المشكلات التي خلقها النظام، ليحول حياة السوريين إلى جحيم، يحيل أسباب حصولها إلى الثورة والثائرين!

لم تتطور العقلية المنتجة للبرامج في مؤسسات المرئي والمسموع التابعة للنظام أو تلك التي تدور في فلكه، طوال العقد الماضي، لا بل تدنت، وصارت أكثر رداءة

هنا، سيتفتق عقل إعلاميي النظام عن ابتكارات شتى، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، والرغبة في المنافسة، تخرج غالبيتها عن الأخلاق الصحفية، وتبنى على استخدام المواطن السوري كأداة للوصول إلى غايات الترفيه، إذ يتذكر السوريون ذلك البرنامج القصير "لو فرضنا جدلاً" الذي تم بثه في وقت ما على قناة سما التابعة للنظام يسأل فيه المذيع المواطنين البسطاء أسئلة ملتبسة أو غير مفهومة مثل "ما أهمية إعادة فتح السفارة السورية في دمشق؟" هذا البرنامج كان مثالاً عن طريقة امتهان شخصية الإنسان السوري، الذي ظهر وفق طريقة إعداد ومونتاج البرنامج ساذجاً، لا يدرك ما يقوله!

تفاقم الأزمة المعيشية التي يعيشها الناس في مناطق سيطرة النظام، وارتفاع مناسيب الفقر والعوز، لم يغير في العقلية التي تبني عليها المنظومة عملها، بل رفع مستوى نهمها للنجاحات إلى مناسيب مرتفعة، بمقومات تبدو أشد افتراساً للمواطن الذي تحول إلى مادتها المفضلة، بعد أن أودت به سياسات العسف الرسمي إلى أردأ الأحوال!

وبالتوازي مع هذا التوجه الإعلامي، ستتيح الأجهزة الأمنية للناشطين على موقع يوتيوب، وكذلك تطبيق تيك توك، حريات مقننة، يستطيع عبرها تصوير أي شيء، وطرح الأفكار بعيداً عن السياسة، بغية إظهار أن الحياة في مناطق الأسد طبيعية، مع توفير آلية ضبط قانونية عبر إصدار غرفة صناعة الدراما والسينما تعميماً يهدد كل من يقدم مواد "مسيئة" للسوريين بالمحاسبة، وأيضاً مع التعديلات التي جرت لقانون الإعلام وغيره.

لكن ما يسيء للسوريين تبدو كعبارة مثل كيس فارغ يمكن لأصحاب القرار أن يملؤوه بما يريدون، وإخراج ما يشاؤون من داخله، ووفقاً لهذا، يمكن لفرع المعلوماتية أن يوقف من يريد، وأن يغض النظر عمن يفضل!

غير أن موجة الأفلام التي ينشرها اليوتيوبرز السوريون، ستكرس اتجاهاً واحداً في منتجات الإعلام الجديد، هو الترفيه الذي لا ضوابط له، وسيحاول إعلام النظام اللحاق بهؤلاء، مستخدماً كل أدواته وطبائعه، ولا سيما تعاليه على الجمهور، الذي باتت أحواله المزرية، تحت سلطة نظام فاجر، تجعله مستسلماً لأي شيء يصير معه!

صحيفة الوطن التي كان يملكها رامي مخلوف، وربما آلت الآن إلى ملكية أسماء الأسد، ستخرج ضمن هذا السياق على السوريين بمنتجها الفيلمي المدرج ضمن مفردات الإعلام الجديد، الذي يحمل اسم المذيعة الشابة دعاء، التي تتجول في الأسواق الشعبية، لتقابل أشخاصاً يظهر من أشكالهم أن أحوالهم قد انهارت في هذا الزمن، تسألهم عن أكلتهم المفضلة، ثم تشتري لهم المواد الخاصة بها!

ويبدو من طبيعة الأفلام التي تم نشرها سابقاً من هذا البرنامج، أن صنّاعه يحاولون تركيب عدة مفردات من إرث الإعلام السوري الرسمي فوق بعضها ليشكلوا منها مادة قابلة للمشاهدة والمنافسة، خاصة وأنهم يرسلون دعاء إلى مناطق سورية متعددة، وقد حققت بعض هذه المقاطع مشاهدات لا بأس بها داخل البلاد، لدى الجمهور الذي صارت الفيديوهات القصيرة سبيله شبه الوحيد للتسلية، مع الانقطاع الدائم للكهرباء.

إلا أن هذا لم يمنع كثيرين من توجيه النقد إلى صناع المادة الإعلامية، ولا سيما لجهة استغلالهم لحاجيات الناس، في صناعة ما ينتجون! لكن الحقيقة التي لم يستطع الجمهور المستاء في الداخل قولها بسبب المحظورات، تقول إن المسألة تتعدى الاستغلال لتصبح افتراساً علنياً لكينونة وكرامة الإنسان! فتعليب الفقر والحاجة، وتحويلهما إلى مادة ترفيه، هو إهانة لمن يعانون ويحاولون النجاة من الجوع، وبدلاً من التوجه صوب مواضيع تبحث في خلفيات القصة الصحفية إذا نظرنا دائماً للمواضيع على أنها قصص صحفية، نرى كيف أن منتجي البرنامج منقطعون بإرادتهم عن الأسباب التي تجعل رجلاً كهلاً عزيز النفس، يبكي في سياق المقابلة أمام الكاميرا، فيستغلون فعله، أي البكاء الذي يحبه ويستجره الإعلام العربي عامة، والإعلام السوري خاصةـ لما يجلبه من تعاطف رخيص وسهل!

الجزء الذي تغفله هذه المقابلات هو خلفية وسياق هذا البكاء، الذي فجره إلحاح المذيعة وبلادتها بسؤال (شو حابب تاكل اليوم)، والذي ينكأ عمق جرح المواطن السوري المتعلق بحاجاته اليومية ومصيره وسواد عيشه.

يتحدث كثير ممن علّقوا على هذا الفيديو عن استهتار إعلام الأسد، بكرامات السوريين، وخاصة أولئك الذين بقوا تحت سلطته، لكنهم ينسون، ربما لهول الأسى الذي يُظهره مشهد الرجل المهان في أَنَفته، أن الطبيعة الافتراسية للنظام، لا تتوقف عند أجهزته ذات الأدوات العنفية كجيشه وفروع أمنه، بل إنها تمتد حتى إلى أدواته الناعمة، وفي هذا، يُستباح كل شيء، وتصبح أيُ فعالية تجري تحت سلطته مهينة، ومسيئة للسوريين ولضيوفه على حدٍ سواء، وإذا أراد أحد أن يتأكد، فلينظر في خطاب التعليقات الموارب على أي حدث يجري هناك.

يُحاول صُناع مثل هذه المنتجات الإيحاء بأن الحياة السورية طبيعية، لكنهم لا ينجحون في شيء سوى إظهار كمْ صارت سوريا بائسة ومقهورة تحت حكم الأسديين!