إعلام الأنظمة يصنع الإنسان الببغاء والجمهور يستسهل السياسة

2022.06.24 | 07:55 دمشق

1-7.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما كان "فيس بوك" هو المكان الوحيد لممارسة السياسة والتعبير المتعدد بالنسبة لشعوب ممنوعة من السياسة أو من التعبير الحر، نحن السوريون منها للأسف، لكن حتى في العالم الافتراضي صار متعذراً ومحرماً على السوريين في الداخل، التعبير الحر والقول السياسي الحر، تحت طائلة الاعتقال والعقوبة بالسجن التي تصل لثلاث سنوات مع دفع غرامة مالية.

يشكّل نشر وتداول الخبر السياسي كما كتابة التحليل والرأي السياسيين عبر "فيس بوك" أو "يوتيوب" خطراً ليس على الأنظمة العربية فحسب، بل على أي نظام وحكم سياسي في العالم لديه محرمات سياسية (في أوروبا والعالم مثلاً من المحرّم إدانة الصهيونية أو التشكيك بأرقام المحرقة النازية لليهود والغجر والمغاربة، أو نقد أجهزة مخابرات دولية وفضح بعض ممارساتها الشائنة).

بالنسبة للسياسة فإن الأنظمة الغربية التي يسمّيها العرب أنظمة ديمقراطية أصبحت أقل حماية لمن ينقدها أو يتطاول على سياساتها أو على مراكز القوى فيها، سواء المعروفة منها أو المحتجبة، حتى لو كان الناقد نائباً في البرلمان أو وزيراً في حكومة محلية.. فما بالك أن تترك الحبل على الغارب لجمهور مثقف أو على الأقل غير مغفل، فيذهب عبر منصات التواصل الاجتماعي للتطاول على مقدسات السلطة هذه أو التطاول على سياسات حكومة ما؟

لذلك أخذت هذه القوى الحاكمة - إضافة إلى تفعيل تقييد التعليق والحذف والإغلاق على منصات فيس بوك ويوتيوب - بتشريع قوانين ملاحقة لكل من يكتب تعليقاً يخالف "القوانين"، وفي المسعى لذلك بدأت بعض الحكومات الأوروبية تناقش سن قوانين تنتهك الخصوصيات المعلوماتية للأفراد في شتى مجالات العالم الافتراضي.

استسهال السياسة

من ناحية ثانية تتعلق بالسوريين خارج سلطة النظام، لا شك أن "فيس بوك" كان أحد أسباب تسطيح المسألة السورية بل و"تسطيلها" -إذا جاز التعبير- تبعاً لمستطيل الكتابة في صفحة فيس بوك، فإذا كان من المستحيل على أي بحث أكاديمي أو كاتب شرح حقيقة قضية ما شرحاً وافياً جامعاً لكل أبعادها، فكيف يمكن لصفحة فيس بوك يقف وراءها أشخاص غير متخصصين في السياسة أو غير مطلعين على خفايا المطابخ السياسية، أن تشرح وتوضح أو تقدم رأياً واقعياً؟

لا يمكن الركون إذاً لـ"فيس بوك" في تحصيل المعرفة السياسية أو اليقين بشأن قضية أو حدث أو موقف، إنما يمكن من خلاله معرفة المزاج العام لشعب ما أو قطاع ما من الناس، بالنسبة لقضية محددة...

فلا يمكن الركون إذاً لـ"فيس بوك" في تحصيل المعرفة السياسية أو اليقين بشأن قضية أو حدث أو موقف، إنما يمكن من خلاله معرفة المزاج العام لشعب ما أو قطاع ما من الناس، بالنسبة لقضية محددة...

ينسب إلى أحد الكتاب قوله إن الطبيب يحتاج إلى دراسة سنوات كالمحامي والقانوني والمهندس، ليكون بإمكان أيٍّ منهم العمل في مجاله أو الحديث عنه. أما السياسة فيمكن لأي شخص أن يتحدث بها، مدّعياً فيها بما لم يأت به الأوائل -كما يقال- فتجد الجميع يتحدثون حديث الخبراء العارفين، ويصبح كل واحد منهم فقيهاً ومحللاً استراتيجياً يدلي بدلوه، رغم عدم المعرفة وانعدام التخصص.

بناء على ذلك ربما وَجدَت "بوستات" العديد من الـ"فيسبوكيين" صدى عند كثير من أصدقائهم ومتابعيهم، وربما تطرف بعضهم في الكتابة عن قصد، بغية جمع "لايكات" وتحقيق ظهور وحضور "يشفي غليل" النرجسية، ولو على حساب الحقيقة.

رغم أنها خبز الشعوب العربية اليومي رغم الخوف والمنع، غير أن السياسة ليست بالمجال السهل، بل ربما هي مجال جامع مانع تجتمع إليها روافد علوم عديدة، إضافة إلى كونها تحتاج لموهبة وحنكة وشيء من الحكمة، والناس تتعامل عادة مع مسائل الحياة كقضايا أو معادلات من الدرجة الأولى أو الثانية وربما الثالثة فلماذا يميل الجمهور لقراءة الحدث السياسي وتأويل المواقف السياسية كمعادلة من الدرجة الأولى يأخذها هذا الجمهور كما تصله عبر وسائل الإعلام أو عبر منصات التواصل الاجتماعي؟

مليارات الدولارات للدعاية والإنسان الببغاء

ترى، لماذا يميل الإنسان الـ"فيسبوكي" كما الإنسان العامي للخضوع لسلطة الخبر والصورة كمادة مقدسة لا يجوز إعمال العقل أو النقد فيها وتفكيكها بغاية فهم أبعادها أسباباً وظروفاً؟ مع العلم أن أموالاً طائلة وإمكانات ضخمة توظف لخدمة الكذب والتضليل الإعلامي السياسي كما للدعاية السياسية والعسكرية (على سبيل المثال فالبحرية الأميركية قبل نصف قرن كانت توظف أموالاً في هوليوود لإنتاج أفلام سينمائية تقدّم دعاية غير مباشرة لها، كما أن جنرالاً أميركياً شبّه فاعلية إذاعة "الحرية" التي كانت تبثّ برامجها إلى الاتحاد السوفييتي بفاعلية سرب من قاذفات القنابل الاستراتيجية!).

الإنسان العامي أو غير المتخصّص يميل لاستهلاك المادة الإعلامية السياسية دون تمحيص أو إعمال النقد فيها، فمنذ عقود أخذت الأخبار السياسية تتحول إلى مادة دعائية وبالأحرى إلى دعاية سياسية لخدمة حزب أو سلطة حاكمة أو دولة أو مجموعة مالية

والجواب أن الإنسان العامي أو غير المتخصّص يميل لاستهلاك المادة الإعلامية السياسية دون تمحيص أو إعمال النقد فيها، فمنذ عقود أخذت الأخبار السياسية تتحول إلى مادة دعائية وبالأحرى إلى دعاية سياسية لخدمة حزب أو سلطة حاكمة أو دولة أو مجموعة مالية، ومن النادر  أن تقدم وسائل الإعلام أخباراً شفافة أو "بريئة"، إذ إن تحوير الأخبار والتلاعب بها أصبح فناً وعلماً...

لهذا السبب يتحول الجمهور شيئاً فشيئاً إلى مجرّد متلقٍّ مستسلم مدمن، طالما أن الأخبار راحت تتحول إلى شبه أفيون، لكثرة تواتر الضخ الإعلامي وفقاً لنمط محدد، يجعل الإنسان المستهلك المدمن للمادة الإعلامية السياسية "ببغاء سياسي"، يعتقد أنه مدرك لما يجري في بلاده أو على مستوى العالم، فيمضي قي تكرار ببغائي لما يسمعه من نشرات الأخبار ومنصات التواصل.

وهرباً من القولبة السياسية أو التسطيح وغسيل الدماغ، صار ينبغي على المهتم الساعي لمعرفة الحقيقة أن يستمع إلى قنوات إعلامية متضاربة التوجهات، ومن ثم يجري عملية مقارنة بين أخبارها وتحليلاتها السياسية علّه يظفر بحقيقة ما يحدث من حوله، أو حتى بطرف خيط.

وليست المحاذير الأمنية وانعدام الحس الأمني والشعور بالمسؤولية لدى جزء من الـ"فيسبوكيين والواتسيين" هو ما يدفعنا لنقد التداول المعلوماتي وممارسة السياسة عبر وسائط التواصل الاجتماعي دوناً عن ممارستها الطبيعية في لقاءات وحوارات مباشرة وعبر جمعيات وأحزاب وندوات.. إلخ (بسبب التداول المفتوح لمعلومات عبر مجموعة واتساب بين معارضين وثوريين، خسرت المعارضة السورية إحدى المناطق التي كانت تحت سيطرتها).

إن ما يدعونا لذلك هو تحوّل هذه الوسائط إلى مكان لتفريغ طاقات الناس وتنمية كسلهم السياسي، والاستعاضة بها عن ممارسة السياسة في الشارع والمنابر التي يفترض أن تمارس بها، وأكاد أجزم أن علاقة متبادلة ما بين ضعف النشاط السياسي وتراجع الاهتمام بالعمل الحزبي، وبين قوة حضور الوسائط الافتراضية في حياتنا، بعدما امتزج الـ"فيس بوك ويوتيوب وواتساب وانستغرام" في حياتنا، فصارت هذه الوسائط مثل الأوكسجين للإنسان، لا حياة له من دونه.