إعادة تخيل الأمة الدينية بعد إعلان وفاتها

2020.06.19 | 00:09 دمشق

ghlaf_alktab.png
+A
حجم الخط
-A

ربما كان حقل العلاقات الدولية أحد الحقول الأكثر ارتباطاً بالدولة كمفهوم تأسيسي، فبدلاً من أن يكون حقل العلاقات "العالمية/الكونية" جاءت التسمية لتحيل إلى علاقة بين الدول حصراً، تماشياً مع كون الدولة هي الأساس الذي بنيت عليه أحلام منظري هذا الحقل وتحديداً النظرية الواقعية ومشتقاتها، فقد هيمن وما زال على الجهاز المفاهيمي لهذا التخصص مفاهيم "الصراع والقوة، وتوازن القوى، والحرب والسلم" منذ توماس هوبز في كتابه "اللفياثان" مروراً بمورجنثاو في كتاب "السياسة بين الأمم" وليس انتهاءاً بستفين والت وجون ميرشايمر، وهي تتخذ من الدولة محور النظر والتنظير حتى بدايات القرن العشرين.

إلا أنَّ الحقل شهد ظهور اتجّاهات جديدة لاحقاً، ابتداءً بدراسات تنحو المنحى القانوني (الدولي والدستوري) ثم ظهور مذهب "التعددية" مع مؤلفات لاسكي وماري فوليت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، والذي يتلخص في "ضرورة أن ينصب البحث على المؤسسات التي تشارك السلطة السياسية في الوظائف كالأحزاب وجماعات الضغط.. إلخ" وبعد خمسينيات القرن الماضي شهد الحقل طفرات في الدراسة بدخول متغيرات أخرى: كالشركات متعددة الجنسية، والمنظمات والشخصيات الدولية، لكنه تجاهل مسائل الهجرة والارتحال الجماعاتي المولد للارتحال الثقافي، وهو محور نقد أستاذ العلوم السياسية بيتر ماندافيل في كتابه "سياسات المسلمين عبر القومية" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر) فهذا الكتاب عابر التخصصات لم ينطلق إلى دراسة المسلمين في المهجر بأدوات أنثروبولوجية إلا عبر نقد فرضية الدولة المهيمنة في حقل العلاقات الدولية.

أشكال أخرى لمفهوم السياسي

ساوى العديد من المنظرين بين السياسات وبين الأنشطة التي تقع ضمن اختصاص مؤسسات الدولة؛ أي إن "السياسة = الدولة" لأن الخطاب السائد يرى في الأطر البيروقراطية الرسمية ودوائر الإجراءات المؤسسية (مثل الانتخابات والرؤساء والبرلمانات) الطريق "الحقيقي" الوحيد لممارسة السياسة. لكن بيتر ماندافيل يرى أنَّ لدينا مظاهر سياسية لا تحصى من الممارسات الاجتماعية اليومية: مثل الممارسات الدينية، والوظيفية، والعلاقات الحميمية، لا تصنف عادة ضمن السياسي. لذلك يجد الباحث نفسه مضطراً لتوسيع مدار البحث بعد نقد مركزية الدولة في العلاقات الدولية وتالياً نقد مفهوم الدولة الذي اعتبر لعقود طويلة مقابلاً وحيداً لمفهوم السياسي وممارساته.

يعرف ماندافيل السياسة بأنها "نشاط اجتماعي يتعلق بالعلاقات بين الشعب (أو الشعوب)؛ وبالتأكيد ليست كل العلاقات سياسية في جوهرها، لكن يمكن في بعض الأحيان أن تحمل العلاقات غير السياسية سماتٍ سياسية". ووفقاً لقراءته هذه، يمكن أن نميّز السياسي بنوعين مختلفين من الدعاوى (الحجج): دعوى مرتبطة بالهوية، ودعاوى أخلاقية.

فالأولى تأتي عبر العداء الاجتماعي بوصفه أحد الجذور الممكنة للسياسي؛ ففي ظل حالة العداء يبدأ المرء بإبراز هويته، أي الفصل بين الأنا والآخر. وهو بالضبط ما يصفه كارل شميت حين اعتبر أن وجود "شعب ما في الحيز السياسي يفرض عليه أن يميز بنفسه عدوه عن صديقه {..} في هذا تحديداً يكمن الوجود السياسي لأي شعب".

في حين الدعاوى الأخلاقية تتلخص في ممارسة وإعلان المرء لما يراه صواباً ومنسجماً مع رؤيته للعالم، وبالطبع فهناك تداخل بين دعاوى بالاعتراف بالهوية والمطالبات بالقضايا الأخلاقية، لا سيما حين تكون تلك الهويات وثيقة الارتباط بمشروعات أخلاقية معينة، لكن الفارق بينهما أنَّ الهوياتي يكون في وسط صراع هويات مسيّس، بينما الثاني يكون مجرد ممارسة طبيعية لمنظور الأفراد/الجماعة لمفاهيمهم وقناعاتهم الأخلاقية في الفضاء العام.

وهذا التأكيد من الباحث على حضور المكون الأخلاقي كمظهر للسياسي يقوده إلى تمييز مهم بين "الهوية السياسية" الطبيعية، و"الهوية المُسَيَّسة". وتشير الأولى وهي الأهم إلى وجود "رؤية معيارية معينة؛ وإلى مجموعةٍ من المعتقدات حول طبيعة "الخير"، وكيف ينبغي للمرء أن يسعى إلى تحقيقه"، أي أنها تشير إلى السياسات الممكنة الناتجة عن ممارسة الأفراد الطبيعية لحقوقهم وتعبيرهم عن ذواتهم، بينما تمثل الثانية هوية سياسية تم تصعيدها في مواجهة هويات أخرى.

النقد السابق يسمح بتجاوز الاعتماد المفرط على فهم المجتمع كنظام مقيد بالحدود، ويقود إلى تحليل كيفية كون الحياة الاجتماعية منظمةً عبر الزمان والمكان، أي المباعدة الزمانية–المكانية بلغة البارون أنتوني غيدنز. وبحسب الباحث يتضمن هذا إعادة "تصور العلاقات الدولية بصورة تؤدي إلى فهم السياسي كمساحة للتفاعل المتموضع عبر أقاليم عديدة وبينها، وهو التفاعل الذي يعد بذاته مؤسساً لهويات سياسية جديدة. وحين تجري رؤية العلاقة بين العولمة والممارسة السياسية من هذا المنظور تبدأ احتمالية السياسة عبر المحلية في الظهور".

الإسلام المرتحل

يقصد أستاذ العلوم السياسية بيتر ماندافيل في طبيعة "السياسة عبر المحلية" بأنها "سياسة ثقافية للصيرورة، أي سياسة تغير الشيء، وتحوله عبر الزمان والمكان" وتسهم عبر المحلية في فتح فضاءات جديدة للخطاب تكون فيها النظرية المرتحلة –وهي عنوان مقالة لإدوارد سعيد- والهجنة، والاصطلاحات المتغيرة للهوية هي أبرز السمات.

ويمكن وصف النظرية المرتحلة بأنَّها مجموعة الأفكار التي تساعدنا في فهم تحول الثقافات والأفكار نتيجة انتقالها من سياق اجتماعي إلى آخر. وفي حالة المسلمين في المهجر المدروسة هنا، تشير إلى "طائفة مسلمة بعينها، تهاجر من سياق قومي بعينه إلى سياق جديد في تجربة تتكيف معها، حيث تشهد (تجعل) فيه إسلامها يتغير معها، وفي بعض الأحوال ستشير إلى شيء يشبه حالة ذهنية؛ ينظر من خلالها إلى طرائق المعرفة القديمة على أنها نسبية، وتطرح التساؤلات، وتتولد فيها أشكال جديدة للمعرفة، إن الارتحال بهذا المعنى يتعلق بكيفية تدفق الإسلام من خلال الأماكن عبر المحلية، وبما يحدث له حين يلتقى أفكاراً "غير إسلامية" ونسخاً أخرى لهذا الإسلام ذاته، ولكنها غير مألوفة له".

يظهر الكاتب كيف أن الإسلام حين يرتحل لا يولد حواراً مع المجتمعات الأخرى فحسب، بل يمتد ليشمل خلق حوارات داخل طوائف الإسلام ذاته، أي إن الارتحال حالة تدخل فيها النسبية على المعرفة المحلية، وتصبح خاضعة للتحول الناتج عن الدخول في نطاق عبر المحلية، وفي هذا الصدد يتخذ الكاتب من علي شريعتي نموذجاً حين انتقل إلى باريس وأصبح إسلامه أكثر انتقائيةً، حيث "اقتُلِع من السياق الإيراني الذي نشأ فيه، وأصبحت اللغة الدينية التي واجهها شريعتي في باريس ذات تأثير بالغ في وعيه الديني". يضاف إليهما الحنين إلى الهجرة الأولى أي هجرة رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)  فهي تشكل في ذاكرة المسلمين الرمز الأكثر ديمومة في الإسلام، إذ تجلى هذا التعبير عبر دعوة الشاب المصري إسماعيل فاروق -المقيم في بريطانيا- إلى إخوانه المسلمين في المهجر للعيش كصحابة النبي في قوله: "أنتم الآن في المدينة؛ ما واجبكم؟ واجبكم هو النجاة، وإنقاذ الحياة، وإدراك قيم الكرامة، والطهارة، والعفة، وجميع الأمور النبيلة". وينشئ عبر هذا الارتحال تحولاً في نظرة المسلمين إلى الغرب لينتقل من كونه معتدياً إلى كونه تحدياً، وطبقاً لكلام أحدهم "فإن المسلمين اليوم يريدون أن يجعلوا لتراثهم معنى في ضوء هذا التحدي". إذاً وعلى حد تعبير الباحث أصبح ارتحال الإسلام رحلة داخل الإسلام ذاته.

إعادة تخيل الأمة

أكد بندكت أندرسن عبر منجزه التاريخي "الجماعات المتخيلة" أن قوة وعظمة الجماعات الدينية الكبرى المتخيلة الناتج عن تماسكها غير الواعي بدأ يضعف باضطراد بعد أواخر العصور الوسطى. إلا أن بيتر ماندافيل وهو يتبنى ذات مفهوم الأمة الذي صكه أندرسن بروح أنثروبولوجية، يؤكد على أن نموذج "الدولة القومية معرض للتهديد من خلال مجموعة من عمليات "التماسف" أي المباعدة التي تقتلع الناس والثقافات من محال إقليمية معينة، وتبسط علاقاتهم الاجتماعية عبر المكان والزمان.. وعليه لم تعد الهويات السياسية تسكن الوعاء الحصري للدولة القومية، وصار من الواجب النظر إليها على أنها تتشكل داخل -وما بين- فضاءات سياسية متعددة".

وساهم ظهور الإعلام وتكنولوجيا الطباعة منذ القرن التاسع عشر في تقليص احتكار العلماء التقليديين للمعرفة الدينية، فلم تعد حجية الكلمة المكتوبة حكراً على القلة المنتقاة فحسب، وأصبحت الأصوات المسلمة تقرأ وتحاجّ وتقوم بفاعلية بإعادة صياغة الإسلام عبر الإنترنت والقنوات الفضائية والأقراص المدمجة "الإسلامية" –قديماً- وظهور طبقة مفكرين إصلاحيين يشككون في الاعتقادات الدوجمائية على حد تعبيره، إذ تتيح هذه الموارد و"الملتقيات للمسلمين وسائل جديدة للتواصل والتفاعل عبر المسافات، بمعنى إعادة تخيل الأمة، كما تفتح مجالات عامة جديدة يمكن أن تظهر فيها أشكال جديدة للسلطة، وللإسلام (الأصيل)".

يفرض علينا هذا العمل الجاد جداً أن نتساءل أكثر عن قضايا مجاورة، كهجرة المسيحيين العرب إلى الغرب، فما هو التأثير والتأثر الذي حصل إثر هذه الهجرات، إضافة إلى السؤال الحاضر حول العرب المهجرين بُعيد انتفاضات 2011م نتيجة عنف الدولة والجماعات المسلحة والاضطهاد السياسي، فما هي التغييرات التي يمكن أن تحصل في الثقافة العربية بعد ارتحال أفكارها وتصوراتها إلى الثقافات الأخرى؟

كلمات مفتاحية