إعادة السويداء إلى الحظيرة!

2018.08.03 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لقد تحاشى نظام الأسد توجيه ضربة قاصمة للسويداء وأهلها، حرصاً على أكذوبة حماية الأقليات المزعومة، خاصة وأن الأقلية الدرزية التي تقطن المحافظة هي الثانية في سوريا من حيث العدد والتماسك الديمغرافي. واقتصر عمله على اعتقال أحرارها وزجهم في المعتقلات وقتلهم تحت التعذيب، واغتيالهم بعمليات محسوبة جيداً.

ولأن ذلك لم يكن متاحاً دون تواري أجهزة النظام القمعية وتخفيف قبضتها، فقد نشأت بيئة متحررة من القيود، وبرزت حالة من التحرر الاجتماعي، سواء على شكل وعي ذاتي للجماعة التي قمعت مثل كل الجماعات السورية طوال نصف قرن، أو وعي سياسي وحقوقي وطني وإنساني عابر للطائفية، ونعمت المحافظة بما كانت تتمتع به "المناطق المحررة" دون أعباء وكلف باهظة.

وبوسع المتابع أن يلاحظ الكم الكبير من الناشطات والناشطين الذين يعملون تحت أنف النظام من تلك المنطقة، سواء في السويداء أو في دمشق أو المنافي، ونبرتهم المميزة الخاصة، التي لا تواجه بشكل مباشر غالباً، لكنها لا تخفي معارضتها، والأهم أنها تكوّن نفسها وتتطور باضطراد.
وقد ظهرت فعاليّة وحيوية هذه الأصوات مؤخراً على سبيل المثال في الحملة المنظمة لمنع بيع وشراء الأثاث المسلوب من جيرانهم في حوران،

تأثير فسحة الحرية أيضاً يمكن أن نلاحظه من خلال تعالي الدعوات المذهبية داخل الطائفة، وبروز شعارات ورايات الطائفة من جهة، وتعالي الأصوات الأخرى داخل الطائفة الرافضة والنابذة للتوجه المذهبي من جهة أخرى.

الذي مثل تحدّ مجتمعي وأخلاقي عال، للنظام وأخلاقياته، سبقها حالة الرعاية المجتمعية للمهجرين، التي وصلت ذروتها في حماية شبان العائلات المهجرة ومنع تجنيدهم في صفوف قوات النظام، أسوة بشبان السويداء ذاتهم.

 تأثير فسحة الحرية أيضاً يمكن أن نلاحظه من خلال تعالي الدعوات المذهبية داخل الطائفة، وبروز شعارات ورايات الطائفة من جهة، وتعالي الأصوات الأخرى داخل الطائفة الرافضة والنابذة للتوجه المذهبي من جهة أخرى، وفتح مراجعات جديّة لهذه الانتماءات وجدواها، مع التركيز على البعدين الوطني والإنساني كأفق للخلاص، وتكشف النقاشات العقلانية أو الحادة على صفحات التواصل الاجتماعي لبعض مثقفي السويداء ورموزها السياسيين جانباً من تيار وعي ناقد ومتزن، أعمق مما يبدو حالياً، ولا تتمتع به أي من الجماعات السورية الأخرى. وهذا بحدّ ذاته عامل خطورة على نظام الأسد، الذي أقام وجوده على صدوع الشروخ الدينية والمذهبية، وفوق جدران التحاجز بين الجماعات السورية.

من جهة، أدى امتناع سكان السويداء عن الانخراط في المجزرة التي قام بها نظام الأسد، إلى حفظ قواها، فئة الشباب على وجه التحديد، وتجنيب المجتمع الخسائر البشرية والقيمية، وحافظ المجتمع هناك على قواه وتوازنه، واستمرت عجلة الحياة شبه الطبيعية بالإنتاج، في حين تراجعت مؤشرات العيش في معظم أنحاء سوريا إلى قيم تحت صفرية.  

يخشى النظام إذن حالة الازدهار المضاعف في السويداء، ويخاف أن تكون واحة تترعرع فيها ثورة قادمة، خاصة أن الجماعة الدرزية، بقدر ماهي منغلقة اجتماعياً، منفتحة ثقافياً وسياسياً، وبوصلتها الوطنية عريقة ومجربّة، ولا تستمد قوتها فقط من الإرث التاريخي الذي يمثله سلطان باشا الأطرش وصحبه، الذين قادوا يوماً الثورة السورية الكبرى، ورفضوا سلخ المنطقة عن سوريا إبان الحقبة الاستعمارية، بل من ضرورات سياسية عقلانية ما تزال راهنة.

تدخل ضمن الحسابات أيضاً حسابات طائفية للثلّة الحاكمة، التي طالما نظرت بغير ارتياح للطائفة الدرزية ومنافستها السياسية والأخلاقية، خاصة بعد الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها قاعدته الاجتماعية.

وتتداخل الحسابات الطائفية الداخلية بحسابات إقليمية، إذ إن حزب الله وإيران لا يمكن أن يسمحوا بظهور فضاء حر لدروز سوريا، قد يكون بمثابة عمق استراتيجي لدروز لبنان الذين يتواجهون معهم.

لقد كان إطلاق ذئاب داعش على تلك المحافظة مؤخراً، نوع من الاستكشاف لقوى المجتمع الكامنة وقدراتها، ومقدمة لخطة طويلة الأمد لاستئصال تلك القوى،

قدرة "أحرار" السويداء على مقاومة التدجين، والحفاظ على المكتسبات، والتماهي في النضال الوطني ضد قوى الاستبداد، هي من سيحدد مستقبل هذه المنطقة.

وستعقب هذه الاختبار نشر قوات النظام وميلشياته في عموم المحافظة بذريعة الحماية، ثم تمزيق المجتمع عبر تأليب بعضه على بعض، ثم السيطرة التامة عليه بالطرق الأمنية التقليدية للنظام وانتزاع كل مكاسبه، ومن ثم إعادته لحظيرة الخضوع.

قدرة "أحرار" السويداء على مقاومة التدجين، والحفاظ على المكتسبات، والتماهي في النضال الوطني ضد قوى الاستبداد، هي من سيحدد مستقبل هذه المنطقة. ولأنها جزء أصيل من سوريا، فإنها ستساهم بقوة، وربما تقود مجدداً، نهضة هذه البلاد التي لا يمكن لها أن تعرف السلام والازدهار إلا في ظل دولة المواطنة والحريات، دولة كل السوريين.