إشارات استفهام على هامش رواية "الطبيب الجاسوس"

2022.09.15 | 07:21 دمشق

موساد جاسوس
+A
حجم الخط
-A

تطرح الرواية المتداولة عن تجربة معن يوسف "الجاسوسية"، كثيرا من علامات الاستفهام، وتلفت الانتباه إلى نقاط عديدة. أولى علامات الاستفهام تلك تتعلق بالحياة الشخصية للطبيب السوري المُتهم بتشكيل خلية تجسس "عائلية" لصالح الموساد الإسرائيلي.

فالرجل الذي يحمل الجنسية السويدية، ويعيش خارج البلاد منذ 17 عاماً، يتمتع بسيرة مهنية لافتة كطبيب متخصص في الكلى والمسالك البولية. فهو رئيس القسم في مستشفى تابع لجامعة ستوكهولم، وحصل على جائزة تُمنح في السويد لأكثر الأطباء تميزاً، عام 2016. أي قبل مسيرة "تجنيده" المزعومة، بسنتين على الأقل. ووفق المعلومات المتاحة عن وضعه المعيشي، فهو لا يعاني من أية ضائقة مالية، ويسكن في شقة تُقدّر قيمتها بنحو 300 ألف دولار.

وهو ما يقودنا إلى أبرز علامات الاستفهام التي يمكن أن تُثار حيال الرواية المزعومة. وهي تفاهة المبالغ المقدّمة لعائلة الطبيب، التي "تجاوبت" معه في النشاط "التجسسي". إذ بدأت تلك المبالغ فقط بتغطية تكاليف تنقلات "معن"، لتصل في أقصاها

–بعد ثلاث سنوات- إلى 6000 يورو مقسمة بين عدة أشخاص. أما عائلته المُتهمة بالتورط معه، فأبرزهم شقيقاه، وهما ضابطان متقاعدان (الثاني منهما تقاعد مطلع العام الحالي)، ولا يحتلان أي مواقع ذات حساسية أمنية خاصة، وفق المعلومات المتاحة حتى الآن. إلى جانب زوجة أحد الشقيقين، الموظفة في البلدية، والوالد الثمانيني، الناشط في تجارة الحديد والإسمنت.

اللافت أن المُتهم الذي تعاون مع "الموساد"، ظناً منه أنه يتعاون مع جهة تسعى لتأسيس مشروع لتنقية المياه، مجاناً، في سوريا، خلص لاحقاً إلى أنه يتعاون مع "المخابرات الإسرائيلية"، من جراء المعلومات التي كانت تُطلب منه، والتي تحمل حسب تقديره، طابعاً أمنياً. فأسرّ بذلك لعائلته، التي وافقت على استمرار التعاون، رغم المخاطر الهائلة، وضآلة المبالغ الممنوحة، التي كانت في معظم الحالات، بضع مئات من اليوروهات، كل بضعة أشهر.

ومن النقاط اللافتة أيضاً في الرواية المتداولة، هي تلك المعلومات التي وُصفت بالأمنية، والتي طُلب من "معن" جمعها. وتشمل خرائط لبلديات تابعة لدمشق وريفها، وتفاصيل عن الطرقات والأوتوسترادات والجسور، وخريطة شاملة لشبكة توزيع مياه دمشق.

السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه هنا: هل تعجز الأقمار الصناعية الإسرائيلية عن رصد تلك المعالم المكشوفة –في معظمها- ضمن البنية التحتية السورية؟

والسؤال الأبرز الذي يطرح نفسه هنا: هل تعجز الأقمار الصناعية الإسرائيلية عن رصد تلك المعالم المكشوفة –في معظمها- ضمن البنية التحتية السورية؟

أما أبرز النقاط اللافتة في الرواية المتداولة عن "الجاسوس" المزعوم، هو أن مصدرها، حزب الله، عبر جريدة "الأخبار" اللبنانية، التي احتكرت الرواية حتى الآن، مع صمت المؤسسات الأمنية اللبنانية –حتى ساعة كتابة هذه السطور- عن الإدلاء بأية معلومات ذات قيمة.

ومن الأمور اللافتة أيضاً، تزامن نشر رواية "الجاسوس الطبيب"، مع رواية أخرى تداولتها مصادر نقلاً عن "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، تتحدث عن حملة اعتقالات طالت العشرات من الضباط والعناصر داخل جيش النظام، بتهمة التعامل مع إسرائيل. ووفق الرواية الأخيرة، فإن المخابرات الجوية والعسكرية شنت حملة الاعتقالات ضد ضباط وصف ضباط في قوات النظام، بدمشق وحلب، بعيد استهداف مَطَاري المدينتين، بتهمة إعطاء إحداثيات لـ"إسرائيل". وهنا مجدداً، يُطرح التساؤل: ماذا عن الأقمار الصناعية الإسرائيلية؟! هل هدف بحجم مطار دمشق أو مطار حلب، يتطلب إحداثيات لضربه؟!

توحي الرواية المتداولة عن "الطبيب الجاسوس"، تحديداً، وكأن "إسرائيل" طرف مُستجِد في اختراق "الدولة السورية". فهي تجنّد شخصيات هامشية، وتبحث عن خرائط لطرق وجسور يمكن رؤيتها من القمر الصناعي غير الأمني حتى، وبسهولة. فيما تحاول رواية القبض على عشرات الضباط وصف الضباط في قوات النظام، بتهمة إعطاء إحداثيات، وإبعاد الشبهات عن شخصيات رفيعة المستوى داخل أجهزة النظام. فدقّة الضربات الإسرائيلية وتواترها، ضد المنشآت الإيرانية على الأراضي السورية، تحديداً في السنة الأخيرة، لا يمكن أن يكون مصدرها عناصر برتب متدنية. وإن صحت الرواية الأخيرة، فهذا يعني أن "جيش النظام"، بات "جنّةً" للمخابرات الإسرائيلية، ترتع فيها كما تشاء.

في مواجهة الاستخفاف بالعقول، وتبسيط طبيعة الاختراق الإسرائيلي، ومحاولة إبعاد الشبهات عن شخصيات رفيعة المستوى في مواقع صنع القرار الأمني والعسكري "السوري"، يمكن استحضار أمثلة عن حجم ونوعية الاختراق الإسرائيلي لـ"الدولة السورية". كمثال على ذلك، خبر اختطاف جنرال إيراني من سوريا، إلى إحدى الدول الأفريقية، والتحقيق معه ومن ثم إخلاء سبيله. وهو الخبر الذي نشرته صحيفة "رأي اليوم" الممولة إيرانياً، قبل نحو سنة.

وبهذا الصدد، يمكن التذكير بملابسات "الدور السوري"، في اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قبل سنتين، إذ قُتل الرجل حال خروجه من مطار بغداد، قادماً من دمشق، على متن طائرة تعود لـشركة "أجنحة الشام" للطيران. من دون أن ننسى الذكرى القديمة لاغتيال عماد مغنية، أيقونة حزب الله، الذي صُفّيَ في دمشق، بعد سنوات من الحياة السرّية وعمليات التخفي.

وبعيداً عن حالات الاختطاف والاغتيال النوعية، يمكن ذكر عشرات الضربات الإسرائيلية التي تؤكد وجود معطيات استخباراتية دقيقة، أبرزها، استهداف مستودعات ضخمة للصواريخ الإيرانية في مصياف بحماة، قبل فترة وجيزة. وقبل ذلك، استهداف مخازن لطائرات مسيّرة إيرانية في مرفأ اللاذقية في نهاية العام المنصرم. وغيرها من الأمثلة، التي استهدفت فيها إسرائيل، مواقع إيرانية عالية الحساسية، من المفترض أنها محاطة بدرجة عالية من التكتم والسرّية.

وإذا تناولنا الاختراق الإسرائيلي للأمن الإيراني، في عقر داره. فتلك قصة أخرى، أكثر دراماتيكية. كان عام 2020، عام الذروة فيها، مع اغتيال محسن فخري زاده، أبرز عالم نووي إيراني، بسلاح رشاش يعمل بالتحكم عن بعد، في قلب العاصمة الإيرانية. دون أن ننسى سرقة الوثائق النووية الإيرانية، عام 2018، التي أقرّ بها، حسن روحاني، رئيس إيران السابق، في آب 2021. ويمكن أن نمرّ على أبرز الهجمات السيبرانية واستهداف منشآت الصواريخ ومحطات النووي والكهرباء، خلال عام 2020. دون أن نهمل سلسلة الاغتيالات الأخيرة التي طالت علماء نوويين وضباطاً في الحرس الثوري، داخل الأراضي الإيرانية، قبل أسابيع.

الاختراق الإسرائيلي لـ"الدولة السورية" التي يديرها النظام، أعمق وأكثر تغلغلاً، من الناحية العمودية ضمن التسلسل الهرمي لصنع القرار. هذا هو الجواب الأكثر منطقية لسؤال: كيف تعرف إسرائيل كل هذه الأهداف الكثيرة والنوعية، وبكل هذا التواتر الكبير، الذي يحدث بصورة شبه يومية؟!

باختصار، تبدو رواية "الطبيب الجاسوس" وعائلته المُتهمة، مثيرة للتهكم، مقارنةً بتواتر ونوعية الأهداف التي نالتها الضربات الإسرائيلية على مدار السنوات الفائتة، على التراب السوري. فالاختراق الإسرائيلي لـ"الدولة السورية" التي يديرها النظام، أعمق وأكثر تغلغلاً، من الناحية العمودية ضمن التسلسل الهرمي لصنع القرار. هذا هو الجواب الأكثر منطقية لسؤال: كيف تعرف إسرائيل كل هذه الأهداف الكثيرة والنوعية، وبكل هذا التواتر الكبير، الذي يحدث بصورة شبه يومية؟!

إذ إن أي جواب آخر، من قبيل، "عشرات الضباط وصف الضباط"، أو "الطبيب الجاسوس" وعائلته من الضباط المتقاعدين منخفضي الرُتب، يعني ببساطة، أن معظم العاملين داخل الجيش وأجهزة الأمن من الرتب المتدنية والمتوسطة، هم عملاء لإسرائيل. وإن صح ذاك التصوّر "السريالي"، فهذا يعني أن الفقر المدقع الذي أوصلنا إليه، بشار الأسد وزمرته، تحت عنوان "المقاومة والممانعة"، جعل "معظم السوريين"، جاهزين لبيع أنفسهم، مقابل بضع مئات من اليوروهات، كل بضعة أشهر.