"إسلامية المعرفة".. آمال وبروفات وخيبات

2020.04.24 | 00:58 دمشق

qsfasfqasf.jpg
+A
حجم الخط
-A

 مرّ منذ أسبوعين حدثٌ رمزي بالغ الدلالة في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، وهو تغيير اسم مجلة (إسلامية المعرفة) التي تصدر عن (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، ومقره في هيرندن قرب واشنطن، وصدور عددها الأخير التاسع والتسعين باسم (الفكر الإسلامي المعاصر). مع تغيير رئيس التحرير ليغدو الدكتور عماد الدين خليل بعد أن كان في العدد ما قبل الأخير الدكتور فتحي حسن ملكاوي.

صدر العدد الأول سنة 1995، واليوم بعد ربع قرن بالتمام والكمال يكتشف القائمون على هذه المجلة وهم من أهم المنظّرين للفكر الإسلامي المعاصر أن (إسلامية المعرفة) اسم يجب تغييره والتخلي عنه، وهكذا ينهار حلمٌ عزيز، وحلمٌ غال، على قلب هذا الفكر. حلم (أسلمة المعرفة)، الذي انطلق قبل ربع قرن ونيف بكامل التوفّز والجيَشان، ليؤسّس ويؤصّل ويؤثّل ويمكّن "إسلامية المعرفة ومنهجية التثاقف الحضاري"، وليحدثنا عن "معالم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية"، وعن "العلوم في الاجتماع السياسي الإسلامي"، وعن "بناء النظريات في الاقتصاد الإسلامي"، وعن "إسلامية المعرفة: رؤية مغايرة"، ولا عجب أن تكون الرؤية هنا مغايرة، لأن الذي يقدمها أبو يعرب المرزوقي صاحب الرؤى المغايرة في كل شيء، ولا معنى لاستثناء (إسلامية المعرفة) من رؤيته المغايرة أيضاً.

حلمٌ أقيمت على أطيافه الندوات والمؤتمرات حول "إسلامية المعرفة في جامعة الجزيرة في السودان"، و"حلقة دراسية حول إسلامية المعرفة ومنهجية البحث العلمي من منظور إسلامي"، و"من السودان إلى ماليزيا: مشاغل أسلمة المناهج الجامعية وآفاقها"، إلخ إلخ إلخ إلخ إلخ، وتحدثنا المجلة عن أهدافها، وهي أهداف شديدة التواضع تثبتها المجلة في أول صفحاتها: "إعادة صياغة المعرفة الإنسانية" نعم: "إعادة صياغة المعرفة الإنسانية وفق الرؤية الكونية التوحيدية من خلال الجمع بين قراءتين: قراءة الوحي، وقراءة الكون".

ولا تذكر لنا المجلة ههنا أمداً محدداً لإعادة صياغة المعرفة الإنسانية هل ستتم في عهد رئيس تحرير واحد، أم أنها ربما تمتد لعهد رئيسين أو ثلاثة، ولا تذكر إذا كان المقصود بالمعرفة الإنسانية تلك المكتوبة باللغة العربية فقط، أم باللغات الفارسية والتركية والأوردية، أم أن المعرفة الإنسانية تعني كذلك تلك المكتوبة بالإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، والروسية، وباقي اللغات الأوروبية؟ أما لغات شرق آسيا فليست على البال من الأصل، ولا تدخل في باب المعرفة الإنسانية، لأنّ أصحابها يأكلون الكلاب والقطط والحشرات والخفافيش، ونقرأ كذلك في جملة الأهداف: "العمل على تطوير وبلورة البديل المعرفي الإسلامي في العلوم الإنسانية، والاجتماعية، على أساس من التمثل المنهجي للرؤية الكونية التوحيدية والقيم الأساسية والمقاصد العليا للإسلام من ناحية، والتمثيل العلمي النقدي لمعطيات الخبرة العلمية والعملية الإنسانية في عمومها وشمولها من ناحية أخرى".

يحدثنا المعهد الذي يصدر هذه المجلة عن رؤيته: "بناء رؤية حضارية شاملة تستهدف بلورة نظام معرفي ومنهجية قادرة على المحافظة على التراث ومواكبة العصر لفهم الطبائع (أي طبائع؟ الله أعلم)

وهذا الهدف يتكرر تسعاً وتسعين مرة بعدد أسماء الله الحسنى، وبعدد أعداد المجلة الصادرة حتى اليوم، من دون أن يتنبّه قائم واحد من القائمين على هذه المجلة التي تهدف إلى (إعادة صياغة المعرفة الإنسانية) على خطأ الصياغة الأسلوبي فيه حيث كان عليهم أن يقولوا: " العمل على تطوير البديل المعرفي الإسلامي وبلورته في العلوم الإنسانية، والاجتماعية"، بدلاً من أن يقولوا: "العمل على تطوير وبلورة البديل المعرفي الإسلامي في العلوم الإنسانية، والاجتماعية".

يحدثنا المعهد الذي يصدر هذه المجلة عن رؤيته: "بناء رؤية حضارية شاملة تستهدف بلورة نظام معرفي ومنهجية قادرة على المحافظة على التراث ومواكبة العصر لفهم الطبائع (أي طبائع؟ الله أعلم)، وإدراك الإمكانات (أي إمكانات؟ كذلك الله أعلم)، والتحديات، ومواكبة السقف المعرفي المتنامي (لا نرضى بالأرضيات! نظرنا دائماً في العالي عند السقوف)، ولتقويم المعرفة المعاصرة، وإنتاج المعارف الجديدة"، أما الهدف الاستراتيجي للمعهد فهو "تأصيل المعرفة، من خلال الإفادة مما ورد في الأصول التأسيسية للإسلام، ومما هو صالح ونافع من التراث، ومما هو متسق مع الهوية الحضارية من الخبرة البشرية والإنتاج الإنساني، ولاسيما العلوم الاجتماعية والإنسانية".

انطلقت المجلة سنة 1995بكامل العنفوان، لإنجاز (إسلامية المعرفة) من دون أن يكون لديها تصور محدد عن هيكليتها وطريقة ترتيب مقالاتها، ولكن سرعان ما اهتدت من خلال الخبرة إلى تنويع موادها ضمن: بحوث ودراسات، ورأي وحوار، وقراءات، ومراجعات، وتقارير ومؤتمرات، والتعريف بالتراث، وورّاقيات (على وزن لزّاقيات وهي أكلة حورانية طيبة من أنواع الحلويات، ويتنافس فيها أهل درعا والأردن وفلسطين، طبعاً بحكم الانتماء القطري فإنني أفضّل الدرعاوية على الجميع).

ولا شك في أن هذه المجلة تحتوي على مقالات مهمة، وهي مهمة ما دامت لا تنصاع لأهداف المجلة في "إعادة صياغة المعرفة البشرية"، أو في "العمل على تطوير وبلورة البديل المعرفي الإسلامي في العلوم الإنسانية والاجتماعية". أما ما سوى ذلك فنقرأ مقالات وبحوثاً تندرج تحت إطار ما يسمى بـ (إسلامية المعرفة) هذا الاسم الذي أزالوه للتّو لإدراكهم أنه مجرد دعوى وأهاويل، ونقرأ تقارير أيضاً تصب في صالح هذه الإسلامية تَشرَق بهجة وغبطة وهي تحدثنا عن إنجازاتها. نقرأ على سبيل المثال عن "دورة تدريبية وطنية عقدت سنة 1998 لمعلمي المدارس القرآنية وأساتذة الدراسات القرآنية لتدريبهم على استخدام التقنيات التربوية الحديثة في تدريس القرآن الكريم وعلومه"، وعن المحاضرات التي ألقيت فيها، ومن جملتها محاضرة الدكتور ملكاوي حول "استخدام الوسائل السمعية والبصرية في تدريس القرآن، وإنتاج الشفافيات التعليمية وإنتاج الشرائح التعليمية وتقنيات توظيف عارض الوثائق المعتمة، وتقنيات توظيف صحيفة عرض الصور الرقمية في تقديم المحاضرات، ومقاربة أولية للحاسوب وكيفية اشتغاله". ولعل القيمة المعرفية اليوم للمقاربة الأولية للحاسوب وكيفية اشتغاله تعطينا فكرة عن القيمة المعرفية الحقيقية لإسلامية المعرفة.

يتخفّف القائمون على (إسلامية المعرفة) من دعواهم المتواضعة، ويضربون صفحاً عنها ، بدون مراجعة، بدون تقديم اعتذار، بدون بيان أسباب

يتخفّف القائمون على (إسلامية المعرفة) من دعواهم المتواضعة، ويضربون صفحاً عنها ، بدون مراجعة، بدون تقديم اعتذار، بدون بيان أسباب، بل بكل هدوء، ومن دون لفت نظر سوى ما يقوله كاتب كلمة التحرير هشام يحيى الطالب رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ويختار لكلمته ونحن في سنة 2020 عنواناً طريفاً لم يخطر على قلب بشر هو: (الفكر الإسلامي المعاصر وسؤال النهضة) ويقول: "يأتي هذا العدد من مجلة (الفكر الإسلامي المعاصر) بحلته الجديدة امتداداً للجهود التي بذلها مؤسسو (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) لا سيما من تولوا التنظير والتأطير الفكري والذين أشرفوا على صياغة رؤية المجلة منذ عددها الأول [...] وهذا التجدّد المستمر مطلب رئيس، فمبدأ الحركة مفردة أصيلة في الفكر الإسلامي، ليبقى الفكر في مراجعة دائمة كل حين مستثمراً بناءه التأصيلي المكين، وقدرته على استثمار الحاضر بصورة إيجابية، وهذا الطيف الجديد من المجلة المتمثل في العنوان والأهداف والأعلام هو امتداد لهذا الحراك التجديدي الذي بدأته المجلة منذ عددها الأول". وهكذا نرى هذا الانتقال يتم بسلاسة تفوق سلاسة الانقلاب الأبيض، فهو مجرد طيف جديد! وليس طائفاً طاف على المجلة فجعلها كالصريم! ولكن لا مشكلة فحياتنا كلها مجرد بروفات! إن خابت واحدة فلا بدّ أن تصيب الثانية، وإن خابت الثانية، فربما أصابت الثالثة، وإن لم تصب فنصيبنا في الجنة، ويخبرنا أخيراً: "نسعى إذاً إلى تأسيس شخصية قادرة على التفكير بحرية دون الارتهان (لمركزية) الماضي، أو (مركزية الآخر)". وهنا لا يسعني إلا أن أقول للمحرر: آمين!