إسطنبول التي تعيش على الانتظار

2023.04.29 | 06:49 دمشق

إسطنبول التي تعيش على الانتظار
+A
حجم الخط
-A

لا يخفى على زائر إسطنبول هذه الأيام أنها الفترة الأقل ازدحاماً، والأكثر قلقاً في يوميات المدينة، ذلك القلق الذي تلحظه في وجوه الناس وحركاتهم وطريقة مشيهم ومقاهيهم ومطاعمهم، والإكثار من التدخين، تسأل بائعاً عن السر فيقول لك: ليس الأمر بعائد إلى أن المرحلة مرحلة بعد العيد حيث تكون الجيوب قد فرغت فحسب، بل كذلك أننا مدينة تعيش على الانتظار هذه الأيام؛ لأن القلق الذي زرعته الحملات الانتخابية ولّد الكثير من الريبة في أي توجه نسلكه هذه الأيام، ولا يبدو أن طاحونة انتخابية في المشهد العالمي تشبه الطاحونة التركية في أثرها في حياة الشارع، وهذا لا يعود إلى كونها تنتمي إلى الديمقراطيات الناشئة عمرياً فحسب، بل إلى وجود قوى مجتمعية واقتصادية وسلطاتية قد لا تسلم بالنتائج وتختار طريقاً آخر غير طريق الانتخابات للوصول إلى أهدافها، ويعود كذلك في جزء منه إلى نمط الشخصية التركية وتكويناتها.

تغدو تسمية البلد بالجمهورية، لا قيمة لها وربما لا بد من استحداث تسمية جديدة بعيداً عن النظام البرلماني والرئاسي والجمهوري اسمها: الجمهورية العسكرية

توازن مخيلتك بين ثلاث مراحل انتظار انتخابية (رئاسية وبرلمانية) عايشتها في ثلاث جغرافيات:

  • سوريا حيث الحكم العسكري ورداء الحزب الواحد الحاكم الذي لا يتزحزح، لا قلق مطلقاً، وليست الانتخابات سوى رداء وأداة تمثيل، لا لون أو طعم أو رائحة، لا قلق كذلك، لأنها وفقاً لتصريحات مخابراتية تسمعها أينما تتحرك: نحن من يحكم، ولتنتخبوا من تنتخبون، نحن من سيضع ومن سيزيل ومن سينقل! هناك تعد القوائم مسبقاً والتعيينات التي لا يمنع أن تمثل شرائح أو اتجاهات أو قوى اجتماعية لكن كل ذلك ضمن إطار التنافس في حب القائد الواحد الأحد والوطن وفق فهمه له وتبعاً لما يريد! لذلك تغدو تسمية البلد بالجمهورية، لا قيمة لها وربما لا بد من استحداث تسمية جديدة بعيداً عن النظام البرلماني والرئاسي والجمهوري اسمها: الجمهورية العسكرية، ظاهرها أنها تتبع النظام الجمهوري والبرلماني لكن واقع الحال يقول: إن القرار عند العسكر والمخابرات.
  • هولندا حيث الحكم الديمقراطي المدني الراسخ الجذور، الملك يملك ولا يحكم والبرلمان المنتخب يقرر معظم التفاصيل، والتعدد الحزبي حقيقي ويعبر عن توجهات في المجتمع، فتشكل الانتخابات مساحة حراك لشريحة قليلة ممن لا يزالون يؤمنون في ضرورة التمثيل المجتمعي، والمشاركة بالشأن العام، هناك الدولة وصلت إلى أعلى المستويات في رعاية مواطنيها لتتحول إلى دولة رعاية اجتماعية، لا تتدخل الانتخابات بتفاصيل الناس اليومية، ولا يقلق مواطن أو يظن أن الانتخابات ستحدد مصير أيامه القادمة، تمر الانتخابات كأنها لم تحدث، ولا يوجد زمان ما قبل الانتخابات وزمان ما بعدها، يوجد زمان مستمر ممتد.
  • تركيا متمثلة في إسطنبول حيث تم إظهار الانتخابات أنها قد تتحكم في كل تفاصيل الناس اليومية، وخياراتهم المستقبلية، تقرأ وتتابع برامج انتخابية تعيد الناس إلى شعبويتها، وإلى حالات فطرية بالانتماء والسلوك أقل ما يقال عنها إنه مخاطبة لغرائز فطرية وانتقامات وتصفية حسابات، كأن المرشح قرأ تلك الشخصية المزروعة بالقلق اليومي، والأرق المعيشي، والرغبة بالتمايز انغلاقاً واعتداداً، التي تحاول السير إلى الأمام لكن صعوبات حياتها ونمط يومياتها يعيدانها إلى الخلف، يريد المرشح أن يثوّر كل طاقاتها الكامنة الانتقامية والعنصرية لكي يجعلها ترجح كفته، وتتساءل: أي ناظم أخلاقي أو إنساني ذلك الذي ينظم الحملات الانتخابية، هل من مدونة سلوك تضع حدوداً لذلك، أي أخلاقيات؟ وهل هي متروكة دون ملاحقة لتعيش حملات انتخابية على أفكار عنصرية أو طرد شرائح لاجئة أو سحب الجنسيات ممن حصل على الجنسية!

ليس الأمر متعلقاً بالمقارنة بين أنظمة حكم لتستحضر مصطلحات العلوم السياسية والقانونية وتاريخ البلدان الثلاثة وتجاربها ومنهجياتها وطرائق المقاربة، بل يتعلق أكثر ما يتعلق بسلوكات الجماعات البشرية وأخلاقياتها وشواغلها واستثمارات المرشحين في أوجاع الناس وحاجاتهم اليومية، إذ يمكن التساؤل: هل تشكل المراحل الانتخابية محطة للارتقاء بسلوك الجماعات البشرية أم بإعادتها إلى خيارات ما قبل المواطنة وتأسيس الدولة؟ فما هذه الحملات التي تعد مواطنيها بأن طرد الجامعات البشرية اللاجئة هو الحل لمشكلاتكم؟ تتساءل: أين يعيش أولئك وأي وعي انتخابي لدى الناخبين حتى يعتقد أن بإمكانه العيش في جزيرته الوطنية المعزولة، أين هو من كل تشابكات العالم الاقتصادية والاجتماعية، العالم الذي بات اليوم يحركه عالم "الأونلاين" واقتصاد الأونلاين!

تصعد مع سائق تكسي، يبحث عن مشترك معك، يقول لك: على أي رحلة أنت قادم؟ تتمنى في أعماقك لو أن بلدك في حالة طبيعية لتقول له: الرحلة رقم 1000 القادمة من دمشق! لكنك تتدارك فتقول له الرحلة رقم 1958 القادمة من أمستردام، فيتابع سؤاله وقد خذل لون بشرتك توقعاته: وما جذورك قبل ذلك؟ تذكر له اسم سوريا! فيلتقط أنفاسه بصعوبة أقرب إلى الغصة، تستذكر نقاشاً مع أطفالك حول الانتباه إلى فكرة السلوكات العنصرية في إسطنبول هذه الأيام فتقول لهم كنوع من الحذر: لا تجب أي شخص عن جنسيتك، فقد يكون من هو أمامكم لديه سعار عنصري يعضك بطريقة أو بأخرى، تمنّعْ عن إجابته، أو أعطه اسم جنسية يتعاطف معها أو اعتذر عن الإجابة، فقد لا يكون أفضل الحلول هو مواجهة السعار العنصري!

هذه مدينة تنتظر الموت، الكثير من سكانها ينتظرون زلزالاَ مدمراً، وقد شاهدوا بعيونهم أن مدناً أخرى أغفت على شكل معين لتستفيق قبل الفجر على شكل آخر وضحايا تجاوزوا الخمسين ألفاً

في مقهى آخر تلتقي بصديقة إسطنبولية زرعت الأيام على جبينها تجاعيد كثيرة فتقول لك، في سياق الإجابة عن قلق الانتظار: هذه مدينة تنتظر الموت، الكثير من سكانها ينتظرون زلزالاً مدمراً، وقد شاهدوا بعيونهم أن مدناً أخرى أغفت على شكل معين لتستفيق قبل الفجر على شكل آخر وضحايا تجاوزوا الخمسين ألفاً! ماذا تعتقد أنها تجيد مهارة مثل مهارة الانتظار، ووعود الزلزال فيها كبيرة جداً ترتشف ما تبقى من فنجان قهوتها لتضيف: لا أقصد الزلزال الانتخابي، أقصد الزلزال الواقعي الذي يبشر به المختصون منذ سنوات! بات الكثير من السكان لا يرغبون بالنزول أو العيش أو التسوق في المناطق القديمة حيث فرص الزلزال المدمر كبيرة جداً!

تذهب مع طفلتك، التي أصابها ملل السكون الإسطنبولي غير المألوف، وقد اعتادت عليها في زيارات سابقة أنها مدينة لا محط لقدم في شوارعها، في منتصف الليل إلى شارع الاستقلال لتختبر جدية سكون المدينة، فتجد أن عابرين كثيرين لا يزالون يمشون في هذا الشارع جاؤوا من مختلف البلدان، ليسوا بالعدد ذاته أو بالزخم ذاته في مرات سابقة، لا يأبهون بتوقعات علماء الزلازل، ولا يتابعون أخبار الساسة، جاؤوا إلى إسطنبول التي لها صورة مدهشة في رؤوسهم: مدينة لا تنام؟ مدينة العشرين مليوناً، مدينة الوجوه المتعددة، مدينة الحلم، أو المدينة العصية على الاستجابة، كلما أمعنت في التواصل معها تذكرك أنك غريب على خلجانها وشوارعها، يمرّ بك طفل سوري، يعيدك إلى طفولتك، ماداً يديه فيحضر بدر شاكر السياب الغريب على الخليج لترددوا معاً:

أنا المسيح يجر في المنفى صليبه، يبسط بالسؤال يداً ندية، صفراء من ذل وحمى، ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية، بين احتقار وانتهار وازورار أو "خطيه" والموت أهون من "خطيه"!

قبل أن ينصرف السياب يقول لك: لا تصدق كل ما يقال إبان الحملات الانتخابية! هذه المدينة مرّ عليها كثيرون؛ غير أنها بقيت هي هي، إسطنبول، تغيِّر شيئاً من مساحيق وجهها أو لون حمرتها استجابة للون لباسها أو موضة جديدة، بيد أنها ستبقى إسطنبول التي عرفتها وعرفناها، مدينة من أحلام وانتظار وحيرة!