إدلب.. كلام على المذبح

2021.10.24 | 13:07 دمشق

آخر تحديث: 25.10.2021 | 08:23 دمشق

246460305_2056427727846305_7876851970723063356_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدايات القرن العشرين، تصير الجغرافيا الهائلة عبئا على أصحابها، وكأنها الثوب الأبيض وقد اهترأت منه الأطراف وامتلأ بالرقع.

حرب، حربان.. وتنفض الدول التي كانت كبرى عن كاهلها التاريخ والأقاليم، وتصير الدول. نتقاسم الجغرافيا والتاريخ ونحمل لعناتهما.

في مثلث لا بحري ولا سهلي وجبلي، عند ملتقى الروم بالعرب القدماء والجدد، ملتقى السهل بالجبل بالساحل تقع إدلب، محافظة حديثة واسم قديم، صار اليوم أرض الويل، وكأن كل معاني الكلمة في المعاجم تمحى وتبقى معانٍ عن الموت، الصبر، الحظ العاثر والخيبات الممتدة، أرض تحاصرها الأوهام والبنادق والجدران الإسمنتية.

أكبر من سجن وأصغر من وطن، أضيق من حلم بالحرية.

لم يرسم أهلها الحدود وتعايشوا معها، فتحوا أبوابهم لكل طارق ونائبة، وزرعوا أرضهم خياما وأحلاما. لا يعرف الأطفال هناك شكل خريطتهم، وهي تبدو كأنها تسيل من علٍ، معلقة بالشريط الشمالي محملة بهمومه وأولوياته وخططه.

لا يعرف الأطفال رسم خريطة أرضهم الملونة على الورق بالأخضر والأسود والأحمر، كراية ليست لأحد، تبرأ منها الجميع وبقيت وحيدة، تُحمل إدلب خريطة على ورق إلى أستانا منذ أعوام لتغييرها، وتحمل من قريب إلى القوقاز  كما حملت بالأمس إلى شمال أفريقيا.

هي مكان بلا ملامح، لم يعد يعرفها أحد، تسيل فيها الحدود والمحددات ويتجمد الزمن الصعب فيها بين ترقب الموت اختناقا أو قتلا وربما قهرا وكمدا..

ماذا فعل من في إدلب ليُتركوا.. ملايين من القلوب تخفق خوفا من السماء والأرض وأخيرا من الهواء، محاصرين بين موت داهم بالكورونا يخنقهم في الخيمة المتعبة أو في بقايا البيت والمشفى ويأتيهم من كل مكان، وموت آخر يتهددهم.

تحاصرهم القوات والمدافع جنوبا تدفعهم للأعلى تعصرهم في مثلث السلام المستحيل بين هواجس المدافعين عن أمنهم القومي والباحثين عن أدوار أكبر والمُعبَّئِين بالحقد وجرحى الكرامة الزائفة.

من يهتم أن إدلب وأهلها يختنقون من دون حتى أن يجدوا من يذكرهم في عداد الموتى كأنهم لا شيء.

إدلب وكأن لا أحد يعرفها ولا يعترف بها إلا من خلال ما يمكن أن يكون ثمنها فيما لو فتح بازار ما، لم يبقَ للروس سواها خطوة أخيرة ليثبتوا أنهم القادرون على سحق أي تمرد في العالم لا يعجبهم كما تفعل الولايات المتحدة.

لم يبق لتركيا سوى إدلب لتكون خندقا متقدما ضد الزاحفين إلى الأعلى بعد أن حصنت شريطها الحدودي الجنوبي ببقايا مهزومين وطامحين، أما إيران فجوع الحرب وقطعان الميليشيات المفترسة المحشوة بالأيديولوجيا يدفعها لأي معركة. نظام الأسد المجرد من كل قيمة لا يبالي بسحق من تبقى يعارضه وهم كثر لكنهم جميعا الآن في إدلب.

ماذا فعل الناس هناك للناس، من جبل الزاوية إلى الأربعين وجبال الأعلى وتلك القرى المتناثرة كشقائق النعمان في سهلي الغاب والروج، وريف نهر العاصي؟.. تراهم بعد أي غارة أو قذيفة وقد زهدوا بالصبر وبالحياة وملّوا الموت، يقفون أمام موتهم مذهولين

من دون حيلة يخرجون من تحت الركام الباقي يتبادلون الصمت والنزيف، ينفضّون إلى بقية حياتهم ناقصين ولداً أو أباً أو أماً..

يرفع الرجل رأسه إلى السماء ينشد فرجاً بعد أن عجزت فعلاً حلول الأرض.

زائرهم الحالي كان ثقيلا على الكوكب بأسره، فكيف يمر في إدلب خفيفا.. الشهادات الواردة من هناك حول ما يفعله فيروس كورونا بالبشر مرعبة! من يهتم لذلك؟ من يهتم أن إدلب وأهلها يختنقون من دون حتى أن يجدوا من يذكرهم في عدّاد الموتى كأنهم لا شيء. من يعلم أنهم حقا لا يطلبون من أحد أن يسمع بهم.. "لا تنقذوا أرواحنا من الاختناق لتقتلونا بالرصاص أو بالفاجعة".

قد يبدو كل ما سبق كلاماً عاطفياً بحق المدينة المنكوبة، كلاماً عاطفياً لإدلب على المذبح، لكن لا بد منه لبناء سردية وحفظها للمدينة الوطن، في ظل سيل من الكلام عنها وعن المستقبل والقادم. لا بد أن نحكي القصة بلسان أهلها، هم يحتاجون إلى ذلك ونحن نحتاج إليه، علينا أن نشاركهم ما هم فيه وأن نشاركهم الحقيقة .

الحقيقة أننا فعلا لا نعرف ماذا ستحمل الأيام المقبلة ولا نملك شيئا لفعله، حتى وإن عجنا الاحتمالات والتحليلات لا نملك الأجوبة ولا نملك تغيير شيء. نحن نكتب المراثي فقط، لأننا لسنا شركاء في صنع القادم، هذه هي الحقيقة.