إدلب.. بين التفاهمات الهشة والحرب الحارقة

2021.01.15 | 00:18 دمشق

thumbs_b_c_5725fdd44712dce1a234dfcb8f91b354.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما لم يعد السوريون، وعلى وجه الخصوص أهالي محافظة إدلب، بحاجة إلى مزيد من التأويل والتحليل الذي يعقب أي عدوان روسي - أسدي على أرواحهم وبيوتهم وممتلكاتهم، ذلك أن ما تستدعيه الحالة الإعلامية من تمحيص وقراءة لأي حدث، شيء، وما يدركه ويعانيه أصحاب الأرض والوجع شيء آخر، وإذا كانت وسائل الإعلام حريصة – بحكم منحاها المهني – على تداول العديد من المصطلحات التي تقتضيها سياقات الحدث، من مثل ( مؤشرات غير مباشرة، أو رسائل سياسية أو عسكرية إلخ )، إلّا أن هذه العبارات ذات المنحى الإشاري، باتت لدى الجمهور العام فاقدةً لأي محتوى من رمزيتها الإشارية، وتحوّلت إلى منهج فعلي محسوس شديد السفور.

فما قامت به القوات الخاصة الروسية ليلة الأحد الفائت ( 10 – 1 – 2021 ) (حين استهدفت فصيل جيش النصر، المنضوي تحت مظلة الجبهة الوطنية للتحرير، في قرية ( العنكاوي) شمال غرب حماة، إذ أودت تلك العملية بحياة أحد عشر عنصراً من الفصيل المذكور)، لم يكن حالة استثنائية تثير المزيد من التساؤل والاستغراب، إذ لقد سبقتها عملية مشابهة بتاريخ 26 – 10 – 2020، حين قام الطيران الروسي ذاته باستهداف معسكر للتدريب تابع لفصيل فيلق الشام، في جبل الدويلة، شمال غربي محافظة إدلب، ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات.

ما هو جدير بالإشارة هو أن العمليتين الروسيتين المذكورتين جاءتا ضمن سلسلة مستمرة من الاعتداءات التي لم تنقطع بالأصل، إذ لا يخلو يوم من استهداف يقوم به طيران النظام ومدفعيته لبلدات وقرى إدلب وشمال حماة، وخاصة في الريف الجنوبي وجبل الزاوية، كما ينبغي التذكير دوماً إلى أن مجمل هذه الاعتداءات المتكررة، تجري في ظل خضوع المنطقة لتفاهمات تركية روسية تقضي بوقف إطلاق النار، فما هي الحصانة التي قدمتها تلك التفاهمات لسكان المنطقة، وهل استطاعت أن تحول دون الموت اليومي والنزوح المستمر للمواطنين، وبالتالي هل كان إشراك بعض الفصائل في التفاهمات العسكرية عاصماً لها من جحيم طائرات بوتين؟

واقع الحال يؤكّد أن ما بين تاريخ توقيع اتفاق سوتشي وبداية العام 2020 ، لم يبق من الاتفاق المذكور سوى اسمه

يمكن القول: إن اتفاق سوتشي ( أيلول 2018 ) يُعدّ من أبرز التفاهمات التركية الروسية حول محافظة إدلب، إذ اتفق الطرفان حينها على وقف كافة العمليات العسكرية من الجانبين، فضلاً عن إبقاء إدلب ضمن مناطق خفض التصعيد، وكذلك اتفق الطرفان على تسيير دوريات مشتركة، إضافة إلى إنشاء نقاط مراقبة تركية، إلّا أن واقع الحال يؤكّد أن ما بين تاريخ توقيع اتفاق سوتشي وبداية العام 2020 ، لم يبق من الاتفاق المذكور سوى اسمه، إذ قامت قوات النظام مدعومة من حليفيها الروسي والإيراني بحرب وحشية واسعة، أدّت إلى اقتحام معرة النعمان في 29 – 1 – 2020 ، ثم اقتحام سراقب في 6 – 2 – 2020 ، ومن ثم اجتياح كفرنبل بتاريخ 25 – 2 – 2020، ما أدّى في النتيجة إلى حصول أكبر موجة نزوح في الشمال السوري، إذا بلغ عدد النازحين من بلداتهم وبيوتهم حتى نهاية شباط 2020، ما يقارب المليون مواطن، توجه معظمهم إلى ريف حلب الغربي وجرابلس وعفرين، في حين آثر قسم منهم أن يستظل بأشجار الزيتون آملاً في عودة قريبة إلى بلدته أو بيته، ثم انتهت تلك الحملة الروسية الأسدية باتفاق الخامس من آذار 2020 بين تركيا وروسيا، وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه الكثيرون أن يفضي اتفاق آذار إلى تراجع قوات النظام إلى حدود اتفاق سوتشي، وإلى عودة النازحين إلى بيوتهم، إلّا أن الاتفاق الجديد – من الناحية الفعلية – جاء ترسيخاً للواقع الجديد الذي فرضه الروس على الأرض، إذ لم تتراجع قوات النظام عن أية بقعة جغرافية اجتاحتها، وكذلك لم يتمكن النازحون من العودة إلى بيوتهم، فضلاً عن محاصرة معظم نقاط المراقبة التركية من قبل قوات النظام، الأمر الذي جعل أنقرة تعمل على سحب تلك النقاط، والبحث عن نقاط تموضع أخرى، وفقاً للترسيمات التي أملاها اتفاق آذار.

وتزامناً مع استمرار عملية ( القضم) التي باتت نهجاً معروفاً لدى النظام وحلفائه. وبالعودة إلى السؤال الأهم، حول طبيعة تلك التفاهمات ومآلاتها التي انتهت إليها، يمكن ملاحظة ما يلي:

أولاً – بالنظر إلى الطرفين المتنافسين على منطقة إدلب، نجد أن أحدهما ( روسيا) تقاتل أصالة عن نفسها ونظام الأسد معاً، وبكامل قوتها، بينما تركيا تقاتل بالوكالة، وما يجعلها تحجم عن مواجهة مباشرة مع روسيا هو عدم ضمانة الدعم الأميركي الفعلي لها في أي مواجهة محتملة مع موسكو، فعلى الرغم من التحذيرات الأميركية للروس من اجتياح إدلب، إلّا أن فحوى تلك التحذيرات انتهت بما أفصح عنه جيمس جفري حين أظهر سقف الدعم الذي يمكن أن تقدمه واشنطن لتركيا، وهو لم يتجاوز الدعم اللوجستي المتمثل بالمعلومات الاستخباراتية، وبعض وسائل الاستكشاف والاتصالات، ولا يمكن لهكذا مساعدات أن تُحدثَ أيّ تغيّر في موازين القوى على الأرض أمام حملات الروس الوحشية.

ثانياً – إن مجمل التفاهمات التركية الروسية، هي تفاهمات بينية بعيدة عن أي رعاية أو مظلة دولية، فضلاً عن أن التخوم الناتجة عن تلك التفاهمات هي تخوم قتالية ليست ثابتة، وفي ظل سياسة (القضم) الروسية فإن مجمل الحدود ومناطق النفوذ تبقى عرضة للتغيير، وذلك وفقاً لمبدأ ( حيازة الأرض أولاً ثم التفاوض).

ثالثاً – إن طيف الفصائل العسكرية الموجودة في محافظة إدلب يبدو شديد التعقيد، حيث يبدأ من الفصائل الإسلامية المصنّفة بالمعتدلة، وينتهي بالفصائل المصنّفة على لوائح الإرهاب، فضلاً عن أن تلك الفصائل تخوض فيما بينها حرباً ضروساً تارة في العلن وتارة في الخفاء، بدافع الحيازة على مناطق النفوذ والتحكم بالمفاصل الاقتصادية، الأمر الذي يجعلها تفتقر إلى المشروع الجامع الذي يوجب عليها الدفاع عن الأرض وفقاً لبرنامج أو رؤية موحّدة، وقد أثبتت جميع المواجهات السابقة مع قوات النظام أن التنسيق الميداني كان غائبا بين تلك الفصائل، وإنْ وُجدَ، فيكون نتيجة لحالة ارتجالية تفرضها تحديات راهنة، وليس نتيجة لرؤية استراتيجية مشتركة.

إن استمرار الحرب على إدلب، سواء من خلال الحملات ذات النوعية المتوحشة، أو من خلال سياسة ( القضم)، إنما يؤكّد المسعى الروسي المعهود إلى تمكين نظام الأسد من السيطرة على إدلب، بعيداً عن أية تفاهمات أو اتفاقيات مع أية جهة إقليمية كانت، وما يعزز استمرار بوتين في هذا المسعى  في الوقت ذاته، هو استمرار الموقف الأميركي الغائب أحياناً، والحاضر حضوراً باهتاً أحياناً أخرى، ما يجعل التحذيرات الأميركية من اجتياح إدلب لا تتجاوز الجانب الإعلامي، دون أن تشكل رادعاً حقيقياً لأي عدوان.

ولئن تعاطت إدارة الرئيس ترامب مع الشأن السوري العام على أنه ملحق باستراتيجية واشنطن تجاه إيران، أي بقدر ما كان التصعيد ضد إيران قائماً، فثمة ما يجعل قسطاً من السخط الأميركي يطال نظام الأسد، ووفقاً لذلك، يمكن الذهاب إلى أن قانون قيصر كان وسيلة من وسائل الضغط على الأسد حيال علاقته العضوية بإيران، إلّا أن ما ينتظره السوريون من إدارة بايدن الجديدة هو هل سيبقى الملف السوري ملحقاً بغيره من ملفات المنطقة، أم سيكون لإدارة بايدن رؤية جديدة؟.