إخوتنا الكرد بين جهالة القتل وإنسانية الحياة.. نوروز جنديرس أنموذجاً

2023.03.24 | 06:26 دمشق

أخوتنا الكرد بين جهالة القتل وإنسانية الحياة.. نوروز جنديرس أنموذجا
+A
حجم الخط
-A

في عصر يوم ربيعي ذات جمعة من جُمَع الثورة في القامشلي أمطرت السماء فضاعت رائحة التراب، تلك التي لا تغيب عن حاستي وحواس كل ابن ريف؛ إذ تشهق الروح عاليا كلما أمطرت غيمة ربيع أو خريف يطل بريح وغيم ومطر، ولا تختلف تلك الرائحة سواء كانت في أرض الحماد في الجنوب، أو العجاج بدير الزور أو الرقة أو شتى محافظات سوريا، في ذاك المساء وعقب المظاهرة بساعات زارني صديق كردي عرفني عليه الشهيد مشعل تمو قبل أعوام، وقد اصطحب صديقي هذا أخاه الذي لا يفقه شيئا لا في السياسة ولا في الثقافة، ودارت بيننا الأحاديث حول معالجة المخابرات لمظاهراتنا، وقد سألني عن اعتقالي الأخير لدى فرع الأمن العسكري، ورويت لهما صدمة أجهزة الأمن حين فهموا أن هناك من العرب من لا يمكن أن يخضع لهم تحت ضغط قوة الشارع السوري وثورته، وأنه ليس كل العرب بعثيين بالفطرة رغم أن البعث ألقمنا إياه مع حليب الأمهات، وأذكر كيف حاول رئيس الفرع منعي من الافتتان بالعمالة الكردية حسب قوله، وإن كان لا بد من عمل ما فليكن ليس معهم، رد علي صديقي بفهم واضح وأكد أنه قد تم طلبه للفرع نفسه وقد طُلِب منه عدم التظاهر مع العرب، وقد أدركنا خطة النظام في تكريس فكرة خاصة بالجزيرة لإيجاد تنابذ بين الطرفين لعب عليه حزب البعث العربي، وأكملته أحزاب البعث الكردي فيما بعد. مثلما ذهب في مناطق التماس الطائفي على أسلمة الثورة وتطييف المطيّف من شتى الأقليات الدينية.

العربي لا يكره الكردية كمادة أو منشأ خلقه الله ليكون جذر جماعة بشرية، ولا الكردي يكره العروبة كمنشأ تجذر منه العرب

ولأن الشعوب قد تجاوزت نخبها في ثورات الربيع العربي فقد كان للشارع الكردي نصيب في تجاوز نخبه وأحزابه، لكن سرعان ما تم نسف تنسيقيات الشارع الكردي بسلسلة اعتقالات واغتيالات، وتحزيب داخلي وتشتيت، والعمل على تخويف الكرد ليعودوا إلى حاضنة تلك الأحزاب، كما تم العمل على تأجيج التباغض لدى العرب ليبقوا في صف النظام ويتبرؤوا من ثوارهم، وفي عودة لشقيق صديقي البسيط الذي قال بضرورة الافتراق والعمل كل لمصلحته ولاقى ما لاقاه من أخيه المثقف، بينما عملتُ على تخفيف حدة الموقف، وقلت لا حق لي في اتخاذ موقف منك بناء على حلمك لأن الصائم قبل الإطار يحاول أن يشتري كل السوق نهارا؛ وعند الإفطار لن يأكل سوى عدة لقيمات، وبعد أن تخف نزعة الحرمان سيدرك أن الاندفاع لن يأتي بنتيجة خيرة، وكذلك نزعة الأحزاب التي تقتات على التحشيد والاختلاف، وستلعب القوى الدولية بالجميع وسنكون وقود حروبها، رد صديقي المثقف وقال لأخيه "العرب لا يكرهون الكرد ولا الكرد يكرهون العرب" وشقيقه ينفر من ذلك وينكره، تدخلت أيضا وقلت "بل إن العرب يكرهون والكرد يكرهونهم كذلك إن شئت فاقبل مني ما أقول" إن المشكلة لا تكمن في الكراهية ذاتها -فيما لو سلمنا بها-؛ بل باتجاهها فالعربي لا يكره الكردية كمادة أو منشأ خلقه الله ليكون جذر جماعة بشرية، ولا الكردي يكره العروبة كمنشأ تجذر منه العرب، بل الكراهية تكمن لدى الكردي في الفعل السياسي للقومية العربية التي لم ير منها إلا قادتها الذين بنوا تاريخهم على الدكتاتورية والإقصاء والتخندق، وكراهية العربي تتجه نحو الفعل السياسي القومي الكردي الذي نحى في آخر المطاف وحسب قانون الفعل ورد الفعل أن يكون نسخة عن البعث العربي، فاقتتلت الأحزاب ورجالاتها بينما بقيت الشعوب نظيفة نقية خالية من كل كراهية، ولولا أن مجريات السياسة والأعمال العسكرية على الأرض وما خلفته من قتل وتدمير واللعب على عامل الخوف لدى كل فرد ليلجأ فطريا للجماعة، لما مثلت تلك التوجهات الحزبية من كلا الشارعين إلا النزر اليسير، لقد دفع المدنيون من كل طرف ثمرة الممارسة الشاذة لأحزابه وتشدد أحزاب الطرف الآخر، ومثلما جاءت داعش التي قيل إنها عربية ضد الكرد في حين أنها عابرة للقوميات، جاءت داعش الكردية الحزبية ممثلة بقسد مع بعض الرتوش البسيطة من تجنيد قسري للعرب لتنفي عنها ردايكاليتها المقيتة، والمؤسف أن أحزابا كردية لم تستطع أن تطرح بديلا وطنيا بل بقيت تلعب في لعبة المزاودة بين الأطراف كلها، أما عن الكرد البسطاء والعرب عامة فقد ضاعوا كالعشب الذي انتهك تحت أقدام الثيران المقتتلة، وقد يختلف معي الكثير في المساوة بين الطرفين في المحنة لكثرة ما عانى العرب من ويلات قسد وطيف أحزابها ومنافساتها، ولاتساع الرقعة التي يقطنها العرب من القامشلي إلى ريف حلب، لكن ما يخص الأكراد أن لهم مظلومية تمنح من رؤية ذات بعد إنساني، واتخذت شكلا مؤطرا سياسيا يحمل عقدة لا بد من تفكيكها سياسيا وثقافيا في المستوى السياسي وفي إطار وطني يتيح للجميع حق المشاركة، قبالة ذلك لا بد من استيعاب حتى احتمالات الخطأ ما دام غير عسكري في المستوى الشعبي فماذا أجرم المحتفلون بعيد النيروز ليقتلوا؟

ثمة جهد شهدته من خلال التواصل مع الداخل من الفئات المهجرة من دمشق إلى إدلب، ويحتاج لبحث واسع لتوكيد ثماره والعمل عليه إذ أن عائلات دمشقية من دمشق وريفها، ومثقفين ليسوا من رواد مواقع التواصل، ولا من الباحثين عن بريق الظهور الإعلامي، ولا من النشطاء في الجمعيات الخيرية التي تكاثرت، قد أدركوا في الوسط الجديد الذي هجروا إليه عنوة وجود فرق في الطبائع والعادات والتقاليد بينهم كبيئة محافظة من جهة وبين سكان المنطقة من أكراد، إذ إن مجموعة من الشيوخ وخطباء المساجد وجهات غير رسمية ولا نصيب لها من سلطة القوى العسكرية المسيطرة وشبابا ناشطين؛ أدركت أهمية كسر الحواجز بين سكان البيئتين، وقد اجتمعوا على أرض واحدة؛ فأقيمت زيارات ولقاءات أهلية عفوية؛ ثم اتخذت شكلا مبرمجا بعد اكتشاف هوة بين فهم كل من الطرفين عن الآخر، وتم تفكيك كثير من الصور النمطية التي وجد أنها قد تشكلت نتيجة جهل كل طرف بالآخر حتى باتوا جميعا كردا وعربا لا يؤمنون بتسمية "طرفين" التي نطلقها اللهم إلا في بعض خصائصهم الاجتماعية وأصولهم، وهم جميعا يحاربون الفقر والموت المعمم، وغضب الطبيعة والأسد والروس وخذلان العالم كله.

لقد اشتغل قسم من المهاجرين في عمل نبيل وتحفظوا على تغطية عملهم إعلاميا لئلا يعانوا تدخلا فصائليا في قضية أهلية مدنية

 نعم صرح الكرد بأنهم كانوا يظنون بأنهم كفار بنظر الآخرين، واكتشفوا زيف هذا الظن ولمسوا فيمن التقاهم ممن ذكرنا جهدهم تفاهما ومشتركات كثيرة، وكانوا يتصورون القادمين محتلين فأدركوا أن الفصائل والميليشيات شيء والشعوب شيء آخر، كما أدرك أبناء الشام المهجرون أن الكرد بشر كمثلهم على اختلاف مستوى تدينهم وأن فيهم من يفضل على أبناء الشام أنفسهم، ولا يريد أي منهم سوى العيش بسلام وطمأنينة بشتى طبائع ملبسهم ومأكلهم وتقاليدهم، لقد اشتغل قسم من المهاجرين في عمل نبيل وتحفظوا على تغطية عملهم إعلاميا لئلا يعانوا تدخلا فصائليا في قضية أهلية مدنية؛ تنسج روابط الثقة والتواشج والتصاهر بين السكان، إلا أن قيام مجموعة عسكرية بإطلاق النار على محتفلين كرد بعيدهم في بلدة جنديرس تعيدنا لسياسات الأسد، وتصب في تعزيز سردية من يشتغل في عزل الكرد عن محيطهم عن أهلهم وإخوتهم، ولا بد من محاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا بموقف مشترك واضح بعيد عن كل التجاذبات السياسية ومصالح الأحزاب ولا التسويق أو التلفيق.

رحم الله الضحايا لهم حق الإنصاف قانونا وعرفا ولهم مجد البراءة، والعار ثوب يستحقه القتلة.