أين صورة الرئيس الزاهد في زخارف الدنيا؟

2021.11.06 | 05:22 دمشق

syria-assad-posters-flickrcharlesfred.jpg
+A
حجم الخط
-A

طرفة "العصفور" التي سنروي سطورًا منها لأنها مكسيكية طويلة ونغفل أخرى لأن نهايتها غير صالحة للنشر وفي بدايتها غناء عن نهايتها تقول وعمر السامعين يطول: إنه عندما يزقزق عصفور جميل على غصن شجرة سعيدًا بالأمن والاستقرار، ويعبر الشجرة عابرون من جنسيات مختلفة، فإنَّ الفرنسي يغني مع العصفور ويقلّد صوته، والإسباني يرقص على أنغام صوت العصفور، الإيطالي يرسم هذا العصفور على لوحة كبيرة، الهندي يتخذ العصفور إلهًا ويعبده ويقدسه، الإنجليزي يطلق النار عليه (الموت نوع من الملكية)، الصيني يأكله بعد بناء مصنع لفخاخ العصافير، الياباني يصنع عصفورًا إلكترونيًا يماثل هذا العصفور بالشكل والحجم، ويصنع جهازًا لترديد نغماته. الأميركي يصنع فيلمًا عن حياة هذا العصفور وعن جميع الأشخاص الذين مروا بهذا العصفور (ويتّهم مسلمًا بقتله)، المصري يقلد الفيلم الأميركي، ويقوم بدور جميع الأشخاص الذين مروا على هذا العصفور، السوري ينتج مسلسلًا عن العصفور، يروي قصة أجداده من أول عصفور وُجد على وجه هذه المدحية، ويقوم بتنزيلات تاريخية وسياسية على حياة هذا العصفور "العربي" وتاريخه ونضاله القومي ويترجم الزقزقة إلى هتاف هو؛ بالروح بالدم نفديك يا حافظ، لكن لن تظهر في المسلسل صورة الرئيس أبدا.

 يندر جدًا أن تظهر صورة الرئيس السوري في المسلسلات الواقعية الكثيرة في المكاتب الرسمية، ولم تظهر إلا مؤخرًا، ويعلم السوري علم اليقين وعينه وأنفه وحنجرته أنَّ المكاتب الرسمية فيها صورٌ للرئيس بعدد الحصى والنجم والتراب، شابًا وكهلًا وفي الآثمين، وصور ابنيه بشار الأمل وباسل المثل، وقد أحصيتُ مرّةً سبع عشرة صورة للرئيس في مكتب واحد، معلقة على الجدران الأربعة.

كانت صور الرئيس جمال عبد الناصر والسادات وحسني مبارك تظهر في الأفلام كلها، كوميدية ودرامية وتراجيدية

وشاهدت في حالات قليلة تعدّ على أصابع الثعبان، وليس للثعبان سوى أصبعين هما ذيله ولسانه، صورة الرئيس الابن في مسلسل سوري، كأنَّ الرئيس السوري من المعارضة، وصورته تهدد الأمن القومي، وكانت صورة وحيدة يتيمة، يكاد الهر أن يأكل عشاءه في الصورة لوحشته، ويحتار المرء في تفسير هذه المسألة الغامضة غموض مثلث برمودا، ومربع "العالم الإغريقي" خالد العبود، ودائرة الهجرة والنزوحات.

فقد يكون ظهور صورته في مسلسل درامي حزين أو في مسلسل كوميدي أو في مسلسل إغراء وحسناوات مثل صبايا مسيئا إلى وقار الرئيس وجلاله، وكانت صور الرئيس جمال عبد الناصر والسادات وحسني مبارك تظهر في الأفلام كلها، كوميدية ودرامية وتراجيدية، ونعلم أنّ مصر هي هوليود العرب، وهي رائدتهم وأسوتهم في الفن والمخابرات والتعذيب وكانت صور الرؤساء المصريين تظهر حتى في الأفلام التي تظلم فيها الشرطة المواطنين وتحبس الأبرياء، حتى يصدّق التمثيل الواقع تصديقا.

هناك مستحبّات ومكروهات عامة في الأفلام والمسلسلات المصرية والسورية، فالمستحبّات أن تكون صورة الشرطي مثالية، ويرتدي بدلة بيضاء ناصعة، ورجال الشرطة في الأفلام يسعون نحو الهدف مثل الألعاب الإلكترونية مسوّمين ومترادفين، ويأتون في اللحظة المناسبة يسبقهم صوت الإسعاف، الأمر كان في سوريا كذلك، بل إنّ المساعد جميل لا يوقف المتهم إلا بعد إبراز إذن النيابة العامة، والنيابة العامة كائن خيالي في سوريا الأسد، المساعد هي رتبة الضابط الذي يعتقل المتهم من بيته حرصا على العدل وجميل هو اسمه الجميل.

هناك ممنوعات اجتماعية ومستحبات طائفية مقنّعة يعرفها صناع المسلسلات والأفلام، فالخدّامة اسمها أم تحسين، وتحسين اسم دمشقي، ليس الحسن ولا الحسين بل تحسين، وهي سيدة في منتصف العمر مغطاة الرأس، طيبة وساذجة وتدعو الله دائمًا، وتخدم التقدميين الغازين والأكابر المحتلين، وشيخ الجامع يشبه القسّ في أفلام الكاوبوي الأميركية، وكانت لهجة الأفلام والمسلسلات هي لهجة العاصمة الشامية، ثم احتفلت مواقع النظام بتحطيم الوثن الدرامي بمسلسل ضيعة ضايعة، بكلماته الخشنة ولهجته الجديدة.

هناك محظور شهير ثان في المسلسلات السورية، غير صورة الرئيس وهو إطلاق النار ليس على المتظاهرين السلميين وإنما على المجرمين الأبرياء أيضا، وسبب الحظر كما يقول المفضّل الضبّي، هو الخوف من توهين روح الأمة وإضعاف الشعور القومي، ليس الشعور القومي العربي، وإنما إضعاف الشعور القومي الإسرائيلي، فإن يطلق الممثل النار، فقد يروّع الجارة إسرائيل ويعكر صفوها في منتجعات الجولان، وتظن أنّ جبهة تحرير الجولان قد اشتعلت، والنظام هو حارس البوابة السورية ويحبُّ مهنته حبا شديدا. وربما يخشى النظام من محاولة انقلاب، فصوت المسدس في المسلسلات السورية دائمًا من خارج الاستوديو، هو مسجل ويبثُّ فوتوشوب "قص ولصق"، ويرى ابن قدامة أنَّ السبب هو هيبة الرئيس قد تسقط بظهورها في تمثيلية كاذبة لا تلقى رواجا، فهو رئيس في الواقع المر وليس كذبة وسيناريو، وقد يكون المسلسل رجعيا جدا أو تقدميا جدا وليس الرئيس برجعي ولا تقدمي، أما خلف الأحمر فيرى أن سبب تجنب صناع الدراما إظهار صورة "الإمام الغائب" في المسلسلات هو افتراء على عالم الغيب من عالم الشهادة أو أن صناع المسلسل يعرفون أن الملايين ستشاهده في أصقاع الأرض وترى تواضع بطل العرب والقائد الزاهد في بهارج الدنيا والزينة الفارغة.

روى لي صحفي أن قريبًا له يعمل سائقًا لـ "جيب واظ" عسكرية، في خدمة الجزمة التي يطلقون عليها اسمًا شريفًا وظريفا هو "خدمة العلم"، أمر السائق بأن يحضر السيارة الروسية فورًا إلى المرآب، فأخبر "معلّمه" - الذي كنا نحتفل بعيده في يوم المعلّم - أنّ السيارة غير صالحة للاستخدام وتحتاج إلى صيانة، فهي معطلة الشكمان، وهي أشبه بدبابة من غير ذخيرة، فأمره بأن ينفذ الأمر، وعلى جسر الحبيب الذي "انكطع" من دوس رجلي سميرة توفيق طفقت الدبابة الروسية المدنية تطلق "اطناعش" موليّة كل دقيقة، فانطلقت فروع الأمن المسعورة كلها إلى جسر الحبيب واعتقلت السائق وزجّت به في السجن بعد الضيافة اللازمة بتهمة محاولة انقلاب على الرئيس وتعكير صفو الأمن الداخلي، وقد نجا من الموت بأعجوبة.

الأسد لا يزال يظنُّ أنه في السرداب، ويحرص على قضاء حوائجه بالكتمان

بات يضرب بحسن التمثيل السوري المثل في عصر بشار الأسد. يقول حماد الراوية معللا ورع المخرجين السوريين في صور الرئيس وصدقة مسدس السرِّ في المسلسلات، هو أنّ الأسد لا يزال يظنُّ أنه في السرداب، ويحرص على قضاء حوائجه بالكتمان، أما عصفور الطرفة فقد نجد مسلسلًا سوريا يصنع من ريشه وسادة، ومن عظامه أسلحة أوتادًا، ومن لحمه وليمة يدعى إليها العبيد والسادة، ومن جلده خيمة ومهادًا، ولن تطلق في الوليمة النار، ولن تعلق صورة الرئيس في صدر المكتب الرسمي لأنهما من "الكبائر" والموبقات في بلد المقاومة بالأناشيد والهتاف.