أيمن الظواهري: المتقاعد على شرفة في كابول

2022.08.08 | 05:54 دمشق

أيمن الظواهري: المتقاعد على شرفة في كابول
+A
حجم الخط
-A

طيلة أكثر من عشرة أعوام قضاها قائداً لتنظيم القاعدة لم يفلح الجراح المصري في تجاوز رتبة «الرجل الثاني» في الجماعة الجهادية الأبرز في العالم. أحد أسباب ذلك أن الفراغ الذي تركه مؤسسها الكاريزمي وأميرها الشهير، أسامة بن لادن، كان أكبر من إمكانات أيمن الظواهري الذي نشأ في ضاحية المعادي الراقية في القاهرة، متفوقاً في دراسته، وفي أسرة مثقفة تعود، من جهة الأب، الأستاذ في كلية الطب، إلى سلالة علماء شرعيين تولى أحدهم مشيخة الأزهر، وإلى تيار قومي محافظ من جهة الأم المولودة لأب أديب وسفير، وتولى عمها الأمانة العامة الأولى لجامعة الدول العربية.

ثمة اتفاق بين كتّاب سيرة الظواهري على أن اليافع كان كارهاً للرياضات العنيفة والأنشطة الجسدية والأندية، انطوائياً ميالاً إلى مطالعة الكتب التي توافرت أمامه بغزارة. وأنه بدأ، في المرحلة نفسها للمفارقة، بعضوية جماعة ناشئة بالغة الصغر تهدف إلى الجهاد تأثراً وثأراً لإعدام سيد قطب عام 1966، المفكر الإسلامي الأبرز والأول في تكوين الفتى.

خلال العقد اللاحق ستتقلص هذه المجموعة وتنمو، يغادرها أعضاء وينضم إليها آخرون، حتى تصبح إحدى مكونات الجماعة الموحدة التي اعتُبرت مسؤولة عن قتل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات عام 1981، والتي ستتفكك، في السجن وبعده، إلى كتلتين متمايزتين هما «الجماعة الإسلامية» و«جماعة الجهاد» التي سيصبح الظواهري قائدها المحوري وإن قدّم غيره للإمارة مرات.

تبنى تنظيم «الجهاد» الانقلاب وسيلة للوصول إلى الحكم الإسلامي، ولذلك سعى إلى تجنيد من يمكن من الضباط، وهجع، ونما واستعد، بانتظار اللحظة المناسبة. غير أن ضغوطاً من داخله وخارجه دفعته إلى تنفيذ عمليات على غرار ما كانت تفعله «الجماعة الإسلامية» الشقيقة المنافسة. لكن هذه الأعمال فشلت كلها، وأدت إلى كوارث منها ما أساء إلى سمعة التنظيم، عندما قُتلت طفلة في إحدى عملياته واستثمر الإعلام الرسمي ذلك على أوسع نطاق، ومنها ما أدى إلى استئصاله، عندما اعتقل جهاز أمن الدولة المصري قيادياً بارزاً وعثر في كمبيوتره على قائمة بأسماء الأعضاء والأنصار وعناوينهم!

تفيد وثائق «أبوت آباد»، التي عثر عليها الأميركيون في كمبيوتر بن لادن، أن الأخير لم يهمّش نائبه «أبو محمد» الذي يتكرر ذكره بالإحالة عليه وطلب مشورته أو موافقته

في تلك الأثناء كان «الدكتور عبد المعز»، وهو الاسم المستعار للظواهري، يمارس قيادة عن بعد. من أفغانستان، مروراً بالسودان في كنف بن لادن، إلى أفغانستان مجدداً حيث سيلتحق بالتنظيم من استطاع الفرار من مصر أو من خاف الملاحقة خارجها، مشكّلين عبئاً مالياً ولوجستياً كان أحد الأسباب التي دفعت «الجهاد» إلى الاتحاد مع «القاعدة» والذوبان ضمنها في جماعة «قاعدة الجهاد»، كما هو اسمها الرسمي الذي دأب الظواهري على تكراره كاملاً.

تفيد وثائق «أبوت آباد»، التي عثر عليها الأميركيون في كمبيوتر بن لادن، أن الأخير لم يهمّش نائبه «أبو محمد» الذي يتكرر ذكره بالإحالة عليه وطلب مشورته أو موافقته. وربما يعود ذلك إلى أسباب عديدة، منها الصداقة الوطيدة التي جمعت الرجلين، ومنها سمت «الحكيم» الذي يوحي به هدوء الظواهري وتهذيبه العالي، وما يبدو من القدرة النسبية لديه على التواصل وقتئذ، قياساً بأمير الجماعة المطلوب بشدة، غير أن الإدارة التنفيذية ظلت بيد آخرين ذوي مواهب عملية وأقرب إلى البنية الأصلية للقاعدة.

ولعل هذا أحد أسباب تراجع التنظيم في عهد الظواهري، فقد قُتل أكثر هؤلاء، وضيّقت أجهزة المخابرات على تحركات من بقي منهم ومراقبة اتصالاته، فضلاً عن تغيّر خريطة الجهاد العالمي بشكل جدي مع ظهور داعش التي تجاوزت القاعدة ورفضت تعليمات أميرها واجتذبت أجيالاً من الشبان الذين يضجرون بسرعة من تنظيره الطويل.

مع الاستقلال النسبي للفروع في تدبير يومياتها، كما فرض الواقع، تراجعت أهمية القيادة المركزية التي اقتصرت على التوجيهات الإجمالية غالباً. وفي ظروف شبه الفراغ هذه، والتخفي الطويل في المنازل؛ يبدو أن مورثات التأليف نشطت في نفس الظواهري الذي كان سبق له أن وضع عدة مؤلفات سياسية وحركية داعمة لمسيرته الأيديولوجية ومتفرعة عن سجالاتها مع الإخوان المسلمين أو مع دعاة المراجعات.

تنزلق الثمانمئة صفحة التالية في مناقشات سياسية ودينية للمسيحية، بذريعة تأثير علاقة الكنيسة بالدولة في نشأة الدولة القومية الوطنية التي تزاحم مفهوم الدولة الإسلامية في المجتمعات الشرقية

فقد فاجأت «مؤسسة السحاب»، الذراع الإعلامية الرسمية للقيادة المركزية للقاعدة، متابعيها في الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول في العام الفائت، عندما نشرت كتاباً ضخماً للظواهري بعنوان: «الكتاب والسلطان: اتفاق وافتراق». وفيه أن هذا مجلد أول من «مجلدات» ينوي كتابتها. المفروض أنها تتناول النظام السياسي في الإسلام، كما تقول المقدمة، و«تأملات في الفساد السياسي في تاريخ المسلمين»، حسب العنوان الفرعي. لكن ذلك لا يشغل سوى الصفحات الخمسين الأولى من الكتاب، فيما تنزلق الثمانمئة صفحة التالية في مناقشات سياسية ودينية للمسيحية، بذريعة تأثير علاقة الكنيسة بالدولة في نشأة الدولة القومية الوطنية التي تزاحم مفهوم الدولة الإسلامية في المجتمعات الشرقية. ومن هذا الباب يصل الكتاب إلى مساجلات لاهوتية حول التوحيد والتثليث، وصحة الأناجيل أو تحريفها، ومجمع نيقية وقراراته.. إلخ، انطلاقاً من البعثات التبشيرية.

غير أن التنبه لم يغب كلياً عن «المؤلف» الذي يقول في مقدمة كتابه إن ما ورد فيه يمثله شخصياً، «ولا يتحمل تبعته غيري من أشخاص أو هيئات أو تجمعات». وهذا أمر غريب من أمير أشهر تنظيم جهادي عالمي، استقر، بعد عقود من الملاحقة المضنية، على دور الباحث الحريص على دقة الإحالات والحواشي، وعلى إيراد قائمة مراجع من أربع عشرة صفحة، بالعربية والإنكليزية.