أنقرة - تل أبيب بعد زيارة غانتس

2022.10.30 | 07:20 دمشق

أنقرة - تل أبيب بعد زيارة غانتس
+A
حجم الخط
-A

أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خلال زيارة خاطفة لأنقرة عن انطلاق مرحلة جديدة في العلاقات التركية – الإسرائيلية. زيارة مفاجئة قام بها غانتس، قبل أيام إلى العاصمة التركية، هي الأولى لوزير دفاع إسرائيلي منذ 12 عاما عند زيارة إيهود باراك أنقرة في منتصف كانون الثاني عام 2010. باراك جاء في مهمة صعبة وشائكة حيث كان التوتر والشحن في ذروته بسبب سياسات إسرائيل في غزة وحادثة "ون ميونيت" الشهيرة، وأزمة "الكرسي الواطي" الذي قدمته الخارجية الإسرائيلية للسفير التركي في أعقاب تصعيد دبلوماسي حاد، تبعته أزمة استهداف أسطول الحرية في عرض المتوسط.
فشل باراك الذي أجرى يومها محادثات استمرت أكثر من ثلاث ساعات مع المسؤولين الأتراك، في عقد لقاء مع رئيس الجمهورية عبد الله غول أو رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أو رئيس هيئة الأركان إيلكير باشبوغ وقتها. لكن أنقرة هذه المرة لم تخيب توقعات غانتس وأعطته ما يريد من خلال "مناقشات مثمرة حول سبل تعزيز الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط ومنطقة شرق المتوسط".

أبواب المجمع الرئاسي فتحت أمامه للقاء الرئيس أردوغان. وهو وقف أمام العدسات في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره خلوصي أكار الذي تحدث عن أهمية التقارب والتنسيق التركي الإسرائيلي والعلاقات التاريخية الطويلة، وعن زيارة "ستعزز التعاون والحوار الثنائي وتشكل نقطة تحول في العلاقات بين البلدين وتسهل حل بعض القضايا العالقة".

كلا الطرفين يريد تسريع إنهاء ما تبقى من تباعد وخصومات وتحسين العلاقات التي خدم التوتر والشحن فيها مصالح وأهداف أطراف ثالثة

الحفاوة التي لقيها غانتس وما سمعه من نظيره التركي أكار تعكس تمسك تركيا بمواصلة ما بدأته قبل عام لناحية مراجعة سياساتها مع دول الإقليم، ومواجهة الاصطفافات التي تشكّلت ضدّها. نجحت أنقرة في بعثرة الكثير من الأوراق التي لعبها البعض ولم يبق سوى التعنت اليوناني وتصعيد القبارصة في الجنوب وتردد القاهرة التي لم تحصل على كل ما تريد من الجانب التركي.

المؤكد بعد ما سمعناه على لسان أكار وغانتس هو أن كلا الطرفين يريد تسريع إنهاء ما تبقى من تباعد وخصومات وتحسين العلاقات التي خدم التوتر والشحن فيها مصالح وأهداف أطراف ثالثة، استغلت هذه الفرصة وحولتها إلى إنجازات سياسية وأمنية واقتصادية على حساب أنقرة وتل أبيب.

الترجمة العملية لنتائج زيارة غانتس قد لا تظهر في القريب العاجل بانتظار خروج إسرائيل من الاستحقاقات الانتخابية، وما سيعقبها من مسار سياسي وحكومي جديد. لكن المؤكد هو أن لقاءاته في أنقرة فتحت الطريق على وسعها أمام تعاون أوسع بين البلدين. استقبال أردوغان للوزير الإسرائيلي بعيدا عن العدسات، لن يعكس فقط الأهمية الخاصة التي توليها أنقرة لشخصية عسكرية بارزة تملك هذا الثقل والنفوذ داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مثل غانتس. بل يعكس أيضا رغبة القيادة التركية في تفعيل العلاقات العسكرية لناحية التصنيع وتبادل الخبرات في التكنولوجيا الحربية الحديثة. وربما الرهان على الدور المحتمل الذي قد يلعبه الوزير الإسرائيلي في المعادلات السياسية المستقبلية في تل أبيب.

ردت تل أبيب على أنقرة في سنوات التوتر والتأزم عبر الانفتاح الواسع على خصوم تركيا في الإقليم وبينهم اليونان وقبرص اليونانية. لكن غانتس يأتي إلى العاصمة التركية وقد ألغى زيارة لأثينا كانت تنتظرها القيادة اليونانية بفارغ الصبر. لن تتخلى إسرائيل عن مصالحها مع اليونان طبعا لكن هدية غانتس بالغة الأهمية ورد التحية لا بد أن يكون بالحجم نفسه. فأين ستفعل أنقرة ذلك؟

ربما في ملف إيران بشقه الإقليمي على خط لبنان وسوريا والقوقاز حيث تضاربت المصالح التركية الإسرائيلية مع المصالح الإيرانية.

وربما في ملف حماس الذي قد يأخذ حالة مشابهة لملف الإخوان المسلمين بعد انطلاق الحوار الدبلوماسي التركي المصري، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مسألة توقيت زيارة غانتس لأنقرة، ووفد قيادات حماس في دمشق لتطبيع العلاقات الثنائية.

وربما في الملف السوري حيث يأتي الدور على الغاز السوري بعد اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية الإسرائيلية اللبنانية. احتمالان يتقدمان في سوريا والقرارات الروسية - الأميركية ستكون حاسمة هنا: أين سيكون موقع ودور طهران في خطط الطاقة السورية بعد خروجها منتصرة في اتفاقية بيروت وتل أبيب الأخيرة؟ وهل ستسمح موسكو بفوز إيراني آخر في سوريا أم إنها ستحاول إرضاء تركيا وإسرائيل معا في إطار صفقة أكبر تشمل الربط بين المرحلة السياسية الانتقالية في سوريا وخطط استخراج وتصدير الغاز السوري في شرق المتوسط؟ ترسيم الحدود البحرية التركية الإسرائيلية لا بد أن يسبق أي تحرك في ملف الطاقة السوري فما هو موقف واشنطن حيال خطة تركية إسرائيلية من هذا النوع تدعمها موسكو؟

دفعت أجواء التوتر والتباعد الإقليمي وحروب الطاقة في المنطقة العديد من العواصم للدخول في لعبة اصطفافات وبناء تحالفات مضادة ورسم خرائط تقاسم نفوذ بحري تتحول لاحقا إلى منصات سياسية وعسكرية. قد يكون قلق أنقرة وتل أبيب من الدخول في سيناريوهات موجعة ومكلفة بهذا الاتجاه هو الدافع الأول باتجاه التهدئة وتحريك خطوات توسيع رقعة التواصل والحوار بوساطات أميركية وأذربيجانية وأوكرانية.

لكن الدور الذي لعبه الرئيس علييف هنا بعيدا عن الأضواء في تفعيل الحوار والتقارب التركي الإسرائيلي نتيجة مواقفهما الداعمة لبلاده في حرب إقليم قره باغ لا يمكن تجاهله. احتمال أن تكون باكو قد لعبت دورا آخر باتجاه تفعيل الحوار الثلاثي المشترك حول خطط الطاقة والتجارة وتبادل الخدمات والذي يتضمن عرض توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وإسرائيل وما ستقدمه للبلدين من مكاسب. احتمال آخر أن تكون تصريحات الرئيس التركي الأخيرة حول "سنبذل ما بوسعنا للتعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط، ولإحراز تقدّم عبر مقاربات إيجابية قائمة على أساس الربح المتبادل" بين طموحات الدول الثلاث في هذه الملفات الاستراتيجية المتعددة الجوانب.

الانفتاح الذي بدأ سيكون فوق قرار الأحزاب والقوى السياسية التي ستحكم، لأن مصالح البلدين والتطورات الإقليمية والدولية تتطلب ذلك

طالما أن الحديث يدور حول الربح المتبادل فلا يمكن هنا إغفال ما يتحدث عنه الإعلام الإسرائيلي حول اقتراح تقدم به غانتس، ويقوم على فتح الطريق أمام وساطة إسرائيلية بين تركيا واليونان باتجاه التهدئة والحلحلة خصوصا في ملفات الطاقة وشرق المتوسط. لن تعارض أنقرة إذا ما كانت أثينا جادة. خصوصا أن الوزير الإسرائيلي يقول "بينما نحافظ على شراكات قوية مع أصدقائنا في اليونان وقبرص ودول الخليج، توجهت علاقاتنا مع تركيا أيضا في اتجاه إيجابي، ويمكننا بناء جسور وتقليص الصراعات لصالح هذه الأطراف".

يستغرب البعض كل هذا التنسيق الجديد بين أنقرة وتل أبيب في ملفات ثنائية وإقليمية حيث يستعد كلا الطرفين لانتخابات داخلية صعبة قد تقلب مسار اللعبة السياسية رأسا على عقب. الانفتاح الذي بدأ سيكون فوق قرار الأحزاب والقوى السياسية التي ستحكم، لأن مصالح البلدين والتطورات الإقليمية والدولية تتطلب ذلك.

التقى أردوغان الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ مرتين في الأشهر القليلة الماضية. واستقبل رئيس الحكومة يائير لبيد عندما كان وزيرا للخارجية. وفتحت أنقرة الأبواب أمام وزراء ومسؤولين إسرائيليين لتعزيز العلاقات التجارية والسياحية. والآن جاء الدور على التنسيق العسكري وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل نحو 15 عاما كما يبدو. تل أبيب تنتظر زيارة الرئيس التركي في الفترة المقبلة. أردوغان لن يفعل ذلك قبل انجلاء الأمور في إسرائيل، لكننا لا نعرف إذا ما كان سيؤخر الزيارة إلى ما بعد الاستحقاق التركي في حزيران المقبل أيضا.