أميون يقرؤون الفاجعة ويكتبون المأساة

2020.09.10 | 01:15 دمشق

arkan-alshwfy-hzb-albth-tnsyb-tlab.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم نكن نحتاج ونحن طلاب في المراحل الدراسية الأولى لشرح كبير من قبل أساتذتنا كي ندرك معنى (الأمية).

لقد كان الأمر بسيطاً، وسهل التحديد، إنه الفرق بيننا نحن الذين نعرف كيف نقرأ ونكتب، وذلك الآخر الذي لا يعرف!

تَمتعنا بهاتين القدرتين، كان يجعلنا نتجاهل احتفالاً مدرسياً متكرراً يقام كل سنة، يُستدعى فيه إلى باحة المدرسة عدد من الرجال والنساء الذين تظهر ملامح الشقاء على وجوههم، ليتم منحهم بعض الهدايا بمناسبة نجاحهم في دورات محو الأمية!

الاحتفال المدرسي البسيط كان جزءاً من احتفالية كبرى يوظفها الإعلام الرسمي في نشراته المحلية، عبر صور مسؤولين يكرمون أولئك البسطاء الذين باتوا "يفكون الحرف"، ومن خلال نشر أرقام "عظيمة" عن إنجازات الحكومة في هذا المجال!

وفعلياً، كان على السوريين أن ينتظروا سنوات طوالا حتى يدركوا أن ما كان النظام يدعيه من محاولات للقضاء على ظاهرة الجهل، كان يخفي سياسة عميقة لصناعة التجهيل مجتمعياً عبر منع التنمية أو إعاقتها، وتخفيض أهمية التعليم لدى عموم السوريين!

كان على السوريين أن ينتظروا سنوات طوالا حتى يدركوا أن ما كان النظام يدعيه من محاولات للقضاء على ظاهرة الجهل، كان يخفي سياسة عميقة لصناعة التجهيل مجتمعياً

كان يوم الاحتفال السنوي ذاك هو الثامن من أيلول، والذي جعلته منظمة اليونسكو منذ عام 1966 مناسبة خاصة بـ (محو الأمية)، التي عرّفتها منظمة الأمم المتحدة على أنها "عدم القدرة على قراءة وكتابة جُمل بسيطة في أي لغة".

وَعْيُنا الطفولي بأن الأمية كريهة كانت يتطور مع الوقت، ويذهب نحو البحث في الأسباب التي تجعل الناس لا سيما الفقراء منهم أميين، حيث كانت وقائع الانحدار الاقتصادي والاجتماعي في سوريا تكشفها وتحددها في الفقر، والجهل، وغياب التنمية في المجتمعات الريفية، وعدم الاهتمام بإنشاء المدارس في المناطق المكتظة سكانياً في المدن، ولا سيما أحياء المخالفات، وكذلك سيطرة العادات والتقاليد التي تحد من ذهاب الإناث إلى المدارس، وأيضاً غياب التوعية بضرورة وأهمية التعليم.

غير أن كافة الأسباب السابقة، لا تولد فجأة، لا في الحياة السورية، ولا في حياة أي مجتمع آخر!

إنها تتأسس وفق سياسات الأنظمة الراسخة! وهنا لا نقصد بالتأكيد ما تعلنه هذه الأنظمة من خطط سنوية، تعمل من أجل رفعة وتطور المجتمع بحسب خطاباتها الرسمية، بل نتحدث عن الممارسات الحقيقية التي تقام على أرض الواقع، وتفرض إيقاعها على مجمل التفاصيل فيه.

وضمن هذا المسار لن ينفصل تفشي الأمية المتصاعد في المجتمع السوري قبل عام 2011 عن ظواهر قريبة من سياقه مثل التسرب من التعليم، بسبب الفقر، وتكريس صعوبة حصول المتعلمين على وظائف تتناسب مع مستوى التعليم الذي حصلوا عليه، ما رسخ فقدان ثقة الناس بقدرة التعليم على تغيير واقعهم!

ولن ينفصل حكماً عن سياسات عامة مثل إفقار المجتمع، وتهميش الشرائح الفقيرة، وتدمير الطبقة المتوسطة، وسيطرة فئة قليلة من قوامها رأس النظام وعائلته وزبانيته على الثروة والاقتصاد، ما أدى في المحصلة إلى تفجر ثورة 2011 التي لا يمكن تجاهل أسبابها الاقتصادية أبداً.

الحروب، لا يمكن أن تغيب عن قائمة أسباب الأمية في أي مجتمع من المجتمعات التي تعاني من هذه المشكلة، لكنها أكبر من أن تكون مجرد سبب، إنها واحدة من أكبر الشرور التي تدمر كل شيء في العالم، وهي فعلياً تمتلك القدرة على تحفيز كل الأسباب التي مرت أمامنا، لتكون حاضرة ليس في مسار تحديد من المسؤول عن الجهل الذي يغرق فيه الناس فحسب، بل في تحري كل الخراب الذي عاشه ويعيشه الكوكب في القرن العشرين والعشريتين السابقتين في القرن الواحد والعشرين!

وفي سوريا أيضاً وأيضاً، ومنذ أن بدأت الحرب، حرب النظام على السوريين الثائرين ضده، سيضاف إلى قائمة الأسباب المؤدية إلى الأمية، واقع الموت العشوائي والدمار، والنزوح والتهجير، مروراً بتدمير البنى التحتية لا سيما منها المدارس، التي كانت تتحول من مهمتها الأساسية إلى ملاجئ يسكنها النازحون، وتستولي عليها الميليشيات الطائفية، والفصائل المتطرفة على حد سواء فتحولها إلى مقارّ ومعتقلات، ومستودعات أسلحة!

لقد كتب الكثير عن مأساة التعليم في سوريا خلال العقد الماضي، وكانت غالبية المقالات والأبحاث تركز على واقع الأطفال في سن التعليم الإلزامي، غير أن ما أهمل كان كثيراً في غضون الاشتغال على هذا الواقع التعيس، كان الضرر الكبير الذي تعرض له أولئك الذين فاجأتهم تحولات الواقع المأساوي وهم في ذروة خضوعهم للعملية التعليمية، ففقدوا سنوات التعليم الأساسية، وأمسوا شبه أميين، بعد أن عاشوا الشتات والتشظي!

اليوم المخصص لمحو الأمية -وبالمفارقة الكبرى التي يعيشها السوريون، حيث حولت الحرب الفضاء التعليمي إلى مجال صراع بين خمسة مناهج دراسية مختلفة تتبع قوى السيطرة على الأرض، وتضخم في نسب التسرب والجهل!- لم يكن ولن يكون سوى يوم آخر من أيام مآسيهم التي لا تنتهي!