أميركا بمنظار سيد قطب

2022.11.14 | 06:33 دمشق

سيد قطب
+A
حجم الخط
-A

في مثل هذه الأيام من عام 1948 كان موظف متوسط الأهمية في وزارة المعارف المصرية يسجل في ذهنه أولى انطباعاته عن العالم الجديد الذي وصل إليه قبل أيام، موفداً «للتخصص في التربية وأصول المناهج». لم تكن الرحلة بريئة من إبعاد كاتب المقالات حادة النبرة عن مجال تأثيره في الصحافة القاهرية النشطة آنذاك. غير أن الحكم على هذه البعثة بأنها محاولة لتغريب قطب، الذي كانت كتاباته تأخذ المنحى الإسلامي تدريجياً، يبدو أمراً لم يخطر على بال من أوفدوه بقدر ما هو من أوهام بعض أنصاره الذين يفاخرون بأنه خيّب ظن «أميركا وأعوانها» حين لم يرجع، بعد أقل من سنتين، «بوقاً» للغرب بل بالعكس، عاد «يهاجم أميركا ويكشف مخازيها»، على حد تعبير أحد أبرز دارسيه، صلاح الخالدي.

لهذه الرحلة قوة دفع خاصة في مسيرة قطب وتبلور أفكاره. ففيها قرر الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي سينعكس سريعاً على حياته التي سيقضي معظم ما تبقى منها سجيناً، وصولاً إلى إعدامه سنة 1966. وبالإضافة إلى ذلك شكّلت آراؤه في أميركا، بوصفها طليعة الغرب، أساساً للكراهية الإسلامية الحركية لنمط العيش الحديث، بفعل الدور التأسيسي الذي لعبته مؤلفات قطب في إطلاق الجهادية من عباءة الإخوان.

سجّل قطب انطباعاته الأولى في ثلاث مقالات نشرها، وهو هناك، في مجلة «الرسالة»، التي كانت الأهم عربياً، بعنوان موحد هو «أميركا التي رأيت». ثم طوّرها إلى كتاب، بالاسم نفسه، لم يقدّر له أن يرى النور لأن مؤلفه أودعه، في أيام الملاحقات، لدى أحد أصدقائه الذي خاف فأتلفه. غير أن مقاطع منه موجودة في «الإسلام ومشكلات الحضارة»، الكتاب قبل الأخير لقطب الذي ستختم مسيرته بطلقة «معالم على الطريق». وفضلاً عن ذلك فإن تجارب هذا المفكر الإسلامي في أميركا، وآراءه فيها، مبثوثة في مواضع عديدة من كتبه الأخرى، وتفسيره الشهير «في ظلال القرآن»، وبعض مراسلاته إلى أصدقائه ومعارفه.

لكنّ المرتكزين الحضاري والسياسي لموقفه يتضحان في مقالة كتبها بالإنكليزية ونشرها في مجلة طلابية هناك، إثر تمكنه من اللغة بعد عام من وصوله، بعنوان «العالم ابنٌ عاق». وفيه يحكي عن أسطورة مصرية قديمة تقول إن إله الحكمة، عندما خلق التاريخ، أعطاه مجلداً ضخماً وقلماً كبيراً ليسجل مدونته. وأن التاريخ شاهد، خلال تجواله، سيدة جميلة تعلّم صبياً. ولما رفع رأسه ليسأل السماء أجابه إلهه إنها مصر التي كانت في ذروة حضارتها عندما كان الآخرون يعيشون في الغابات. ولكن ما الذي فعله الطفل، الذي يمثل العالم في الحكاية، عندما كبر؟ لقد نبذ تلك السيدة الطيبة وضربها محاولاً قتلها. يضيف قطب: «فعندما أتينا إلى [العالم/ هيئة الأمم المتحدة] هنا لكي نناشد إنجلترا أن تمنحنا حقوقنا، ساعد العالم إنجلترا على حساب العدالة. وعندما جئنا إلى هنا مرة أخرى لكي نشكو من اليهود، وقف العالم مع اليهود ضد العدالة. وفي أثناء الحرب بين العرب واليهود، ساعد العالم اليهود أيضاً». يكتب قطب متذكراً الهزيمة الطازجة التي منيت بها الدول العربية قبل وقت قصير، وأسفرت عن تأسيس دولة إسرائيل.

في وقتٍ كان قطب يؤسس فيه للحقد العنيف في الفضاء الإسلامي كان آخرون يسيرون نحو معالم مشابهة بالتيارين القومي العربي واليساري. ومهما يكن من أمر صراع هذه التوجهات الثلاثة أو تهادنها خلال قرن مضى فقد اتفقت على خطاب الكراهية وعلى عنصرية مضادة تجاه الغرب. مما رسم ملامح موقفنا منه وموقعنا الطرفي الرافض للعالم، حتى لو أقمنا فيه وعشنا على معوناته!

لكن الأمر لا يقف عند حدود سبق الحضارة وجور السياسة وإن انطلق منهما، بالإنكليزية على الأقل. فبالعربية يكتب المؤلف في مقالاته في «الرسالة» الذائعة أن أميركا كلها لا تساوي شيئاً «في ميزان القيم الإنسانية»، رغم المساحات الشاسعة والموارد التي لا تنضب والمصانع الضخمة والنتاج الهائل والمعاهد والمعامل وعبقرية الإدارة والتنظيم التي تركزت على العمل حتى كاد الإنسان يستحيل إلى آلة. فالشخصية الأميركية مشوهة برأيه، بدائية في الشعور والسلوك بشكل يذكّر بعهود الغابات والكهوف، تُعجَب بالقوة العضلية والمادية وتستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في مناحي حياتها وحتى في أخذها الموت بمزيج من الدعابة والتفكه وقلة التعاطف. وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة في العالم المسيحي فإنها في أميركا مكان لكل شيء إلا العبادة. ويصعب عليك، برأي قطب، أن تفرّق بينها وبين أي مكان معدٍّ للهو والتسلية. وعلى كثرة عددها واختلاف مذاهبها فإنها تتنافس في الإعلان عن نفسها «بالأنوار الملونة على الأبواب والجدران»، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة بنفس الطريقة التي تتبعها المتاجر ودور العرض، ولذلك لا تجد بأساً باستخدام «أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأبرعهن في الغناء والرقص والترويج».

وإن كل ما تعبت المسيرة البشرية الطويلة في خلقه وصيانته من آداب الجنس، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف ومشاعر؛ تجردت منه الحياة في أميركا مرة واحدة، فانطلقت العلاقات الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة. لقد تحرر الأميركيون من الإنسانية التي تفرّق البشر عن الحيوانات. فموسيقاهم هي الجاز «التي ابتدعها الزنوج لإرضاء ميولهم البدائية ورغبتهم في الضجيج». ورياضتهم هي كرة القدم الأميركية التي ليس للقدم فيها نصيب! إنما يحاول اللاعب أن يخطف الكرة ويجري ليقذفها في الهدف، في حين يريد الفريق الخصم أن يعوقه بكل وسيلة متاحة، بما فيها «الضرب في البطن وتهشيم الأذرع والسيقان بكل عنف وشراسة»، بينما يهتف الجمهور: «حطم رأسه. هشّم أضلاعه. اعجنه عجناً». وسينماهم تعبّر عنهم بالضبط: «ذروة الإتقان الصناعي وبدائية الشعور الفني».

بعد عودته بسنتين سيكتب قطب، في «الرسالة» أيضاً، مقالاً صارخاً بعنوان «عدونا الأول الرجل الأبيض». وفيه يقول إن الناس في أميركا يتحدثون عن الرجل الأبيض وكأنه «نصف إله»، بينما يتحدثون عن الملونين، «من أمثالنا المصريين والعرب»، وكأنهم «نصف إنسان». ومن هنا فإن الذين يعتقدون أن أميركا يمكن أن تقف مع شعوب الشرق ضد الدول الاستعمارية الأوروبية هم إما مغفلون أو مخادعون. لأن «الرجل الأبيض هو عدونا الأول، سواء كان في أوروبا أو كان في أميركا». وهذا ما يجب أن نجعله حاضراً في تربيتنا لأبنائنا في المدارس.

وفي هذا المقال، الذي كتبه بعد استقالته من وزارة المعارف بأسبوعين، يهاجم القائمين عليها بعنف. معتبراً إياهم «عبيداً» للرجل الأبيض، يرتكبون «جناية قومية، وجناية إنسانية». وأن مكانهم كان ينبغي أن يكون مكان «الجواسيس والخونة والطابور الخامس لا مكان التمجيد والتقدير». مبيّناً أنه لا يأمل من الجيل الذي شاخ أن يصنع شيئاً، فهو جيل قد انتهى. إنما يطمع في جيل الشباب، الذي يحترم رجولته وقوميته وإنسانيته، أن يُخرس كل صوت يرتفع في مدرسة أو كلية أو معهد بتمجيد الرجل الأبيض، وأن يحطم كل قلم ينغمس في مداد الذل والعار، ليمجد الرجل الأبيض الذي يدوس أعناقنا بحذائه». يومئذ فقط، حسب سيد قطب، «يوم تغلي دماؤنا بالحقد المقدس على كل ما هو أوروبي أو أميركي.. سننال استقلالنا كاملاً».

في وقتٍ كان قطب يؤسس فيه للحقد العنيف في الفضاء الإسلامي كان آخرون يسيرون نحو معالم مشابهة بالتيارين القومي العربي واليساري. ومهما يكن من أمر صراع هذه التوجهات الثلاثة أو تهادنها خلال قرن مضى فقد اتفقت على خطاب الكراهية وعلى عنصرية مضادة تجاه الغرب. مما رسم ملامح موقفنا منه وموقعنا الطرفي الرافض للعالم، حتى لو أقمنا فيه وعشنا على معوناته!

كلمات مفتاحية