أمراء حروبنا، وحروب أمرائنا

2021.10.21 | 09:36 دمشق

untitled-6.jpg
+A
حجم الخط
-A

واحد من أساليب العنونة السيئة، وهي كثيرة للأسف، أن يضع الكاتب كعنوان، جملة تحتوي مبتدأ ومضافاً إليه، وأن يكررها، مقلوبة، فيصبح المضاف مبتدأ والمبتدأ مضافاً، كما أفعل في العنوان الذي وضعته أعلاه.

وهو بالمناسبة، أسلوب ينتمي لعالم الفذلكة، لكن، يقودني الاضطرار هنا، إلى بناء صيغة عنوان، ينطلق من وجود رداءة، يجب التمثيل لها من خلال الكلمات.

السبب الذي جعلني أفكر بهذا المنحى؛ هو أنني قرأت بالصدفة المحضة، مقالاً لكاتب مُكرّسٍ بين مؤيدي نظام الأسد، يسبغ فيه المدائح، لكاتب آخر صار صاحب حظوة وهيمنة، في المقلب ذاته.

ما جعلني أتذكر أن حالنا الإعلامي، وحالتنا الثقافية، قد بنيا دائماً، على مثل هذه الأفعال، في خلق الشخصيات المشهورة صحفياً وإبداعياً.

خلال عقود، تم تكريس الأسماء في سوريا، من خلال حوامل سلطوية حزبية أيديولوجية. وبمرور الزمن تحول هؤلاء إلى حيتان تبتلع كل كائنات البحار التي تعيش فيها، لقد صار لأحزاب يسارية (الحزب الشيوعي وانشقاقاته) مثقفيها ومبدعيها وصحافييها ونقادها، ومهندسيها وأطبائها. إلخ، وللحزب السوري القومي الاجتماعي أمثالهم، وينطبق الأمر من قبل، على حزب البعث، والقوى السياسية الأخرى!

نرى في المجال الإعلامي، كيف يصبح البعض، صاحب قرار، وحل وربط، يتحكم بأمور ومصائر الآخرين الذين يتولى إدارتهم، لا من زاوية الشروط المهنية وضروراتها، بل من خلال شرفات الشخصنة

وبالانطلاق من ولادة بؤر سلطوية، في كل مجالات الحياة اليومية، وبغض النظر عن التقسيمات السياسية والميدانية، والجغرافية أيضاً، تطورت واكتملت، وهيمنت، وصار من الواجب تشريحها، وقفتُ عند تسمية كل من استحوذ على موقع، أو منصبٍ، أو استأثر بسلطةٍ، يستطيع من خلالها التحكم بالآخرين، خلال العشرية الدموية الآفلة، أمير حرب.

ورأيت أن الفضاء العام، بما فيه البيئات التخصصية، صار مملوكاً لعدد هائل من هؤلاء (بالقياس إلى عدد السوريين، وقلة ما ينتجونه في خرابهم الذي يعيشونه)، لا بل إن حروباً تنشأ هنا وهناك، بين فلان(ة) وفلان(ة)، قوامها الصراع على الجعالات المادية والمعنوية.

وهكذا بات من الطبيعي، أن نصطدم في يومياتنا بعشرات، من أمراء الحرب الذين باتوا يحتلون حياتنا.

لقد جرى تسويق هذا المصطلح على أنه خاص بزعماء الميليشيات الذين حولوا الحروب إلى ساحة للاستثمار المادي، لكن، يمكن بقليل من النزاهة الأخلاقية، وبكثير من الجرأة النقدية، العثور على أشباه لهؤلاء، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نرى في المجال الإعلامي، كيف يصبح البعض، صاحب قرار، وحل وربط، يتحكم بأمور ومصائر الآخرين الذين يتولى إدارتهم، لا من زاوية الشروط المهنية وضروراتها، بل من خلال شرفات الشخصنة، حيث يطل على زملائه من علٍ، ويفتي بجودة مقال أحدهم، أو رداءة تحقيق إحداهن، بناء على رؤى غير مبررة، وبناء على العلاقات والمنافع المتبادلة، وغيرها، مما تنطوي عليه، تضاعيف الفساد اليومي.

وينطبق الأمر ذاته، على هذه المهنة أو تلك، هذا المجال، أو ذاك، لينتج السياق في المحصلة واقعاً رديئاً، يكتشف المرء أنه جزء منه، أو أنه متورط فيه بشكل أو بآخر!

وفي المجال الثقافي، حيث يصبح شاعر أو قاص أو روائي، صاحب حظوة، وسلطة، يمنح الجوائز المعنوية لهذا وتلك، ويبعثر الهدايا يمنة وشمالاً، ويعطي زميله المقرب وساماً، ويمرّق لزميلته المحببة لقباً، وفي السياق العملي، تتم ترجمة ما سبق، فرصاً للحضور، في مجلات مرموقة، وجوائز مفصّلة على قياس المرشحين لها، وتسويقاً من خلال دور نشر، تحكم بدورها الحبل على أعناق القراء، فلا يرون "مبدعين" أمامهم سوى هؤلاء!

لا نحتاج للحديث عن المجالات الأخرى، التي تتماس مع حيوات السوريين، فما يجري هنا، يجري مثله هناك، وقد كان هذا الحال قبل الثورة، وكما أسلفنا، راسخاً طوال عشرات السنين، ومن اليقيني، أن واقعاً مثل هذا، سيكون حاضراً ضمن حزمة أسباب انتفاضة الثائرين على كل الأربقة التي قيدت حياتهم، وخاصة جيل الشباب، الذين دخلوا الحراك، وجروه في عامه الأول، إلى فضاءات إبداعية، لا تنسى!

غير أن مشكلة الظرف الذي ينتج عن الحروب والاضطرابات، فضلاً عن مآسيها الكارثية المدمرة للمجتمعات، أنه وبعد استنقاع الثورة، يخلق بيئة فاسدة، يمكن لكل الجراثيم الأخلاقية، والتجاوزات غير المبدئية، أن تعشعش فيها، وتنمو، وتتضخم، وصولاً للحظة تحولها إلى قواعد راسخة، لا يمكن لأي جديد أن يمر، دون أن يتلوث بها.

وبين هذه التفاصيل، لن يكون مستغرباً أن ينقسم كل شيء، بين شلل تتبع زعامات، لا يمكن تخيل أنها ستتعاون سوية، فهي ليست متنافسة فقط، بل غير متحابة، وتتبادل الكراهية، فيخوّن المتحازبون أندادهم، وينالون من ذواتهم، ولو أتيح لهم المجال، لاستخدموا الأسلحة النارية، كما يجري في حروب الفصائل المسلحة ذاتها!

مأساة كثير من المبدعين والفاعلين والمؤثرين السوريين، ليس الشباب فقط، بل أيضاً بعض من بلغوا من العمر عتياً، في ظرفنا الحالي، تتأتى من أنهم يدخلون بيئة المستنقع بشهية طيبة، مستعجلين صوب الجعالات الرخيصة، يخوضون في موسم جني الأرباح، حتى وإن تحولت أقلامهم إلى خناجر وحراب، يطعنون بها غيرهم، حتى يخال المرء نفسه قد عاد ألف سنة إلى الوراء، وضاع في مجاهيل الصحاري والقفار والدروب.

كلمات مفتاحية