ألوان من الحب

2021.08.28 | 05:27 دمشق

hqdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

 هناك وجوه أخرى للهوى...

كُتبتْ قصص الحب العظيمة البيضاء الخالدة، التي تحكي الإخلاص والتضحية في كتب مستقلة، وبعضها جُمع في مصنفات كثيرة، مثل مصارع العشاق، وروضة المحبين، وصُوّر كثير منها في السينما، وهناك ألوان من الحب عجيبة، منها أنّ بشار بن برد أحب سماعًا، عن طريق الأذن، والعادة أن يحبّ المرء عن طريق عينيه، فالعين باب الحب والأذن نافذته، وليوسف إدريس قصة اسمها مسحوق الهمس، يعشق الراوي الحبيس امرأة من سجن النساء من طحين همسها وراء الحاجز بين سجن الرجال وسجن النساء. والحب أنواع، حب الذكر للأنثى، وحب الإنسان للمكان والأشياء، أو حب الإنسان للحيوان. وكان الشاعر العربي يبدأ قصيدته بالمكان، ثم بالحيوان، ثم يتفرغ لحبيبته، أو قد يبدأ بالوطن في صدر البيت، والحبيبة في عجز البيت، فلا حب من غير وطن.

أحبَّ زميلٌ لي بيتين شهيرين من الشعر الواعظ لأبي العتاهية، فحفظهما وكررهما كثيرًا، وسئل مرّة عن قائل هذين البيتين، فقال من غير أن يرفّ له جفن: أنا.

لقد أحبهما، فامتلكهما، هذا مصداق الأثر: حبك الشيء يُعمي ويصمّ.

في السجون السورية يصير السجان مالكًا للسجناء، أبدانًا وأرواحًا، فيولع بالتعذيب، ويحب القتل حبًا جمًا

وليوسف إدريس قصة رقيقة بعنوان "الزوار" في مجموعة "لغة الآي آي"، تروي قصة مريضتين في مشفى، هما: مصمص، التي يزورها أهلها كثيرًا، وسكينة، التي ليس لها أهل، سريراهما متجاوران، يزور مصمص أهلها ويجلسون على سرير سكينة، وبعد زيارات آلفت سكينة زوار مصمص، حتى صاروا أهلها، تبادلهم الحكايات والأسرار، فتقرر مصمص أن تضع لها حدًا، ثم تكفّ شفقةً بسكينة، لأن سكينة ليس لها أحد.

هذه قصص حبّ، لكن ثمة قصص أخرى سوداء، وفي السجون السورية يصير السجان مالكًا للسجناء، أبدانًا وأرواحًا، فيولع بالتعذيب، ويحب القتل حبًا جمًا، كأنه بائع دجاج حي، وبائع الدجاج يربح مالًا، وكذلك السجّان يكسب الرضا والشبع النفسي والوطني بقتل الخصوم.

ومن الطرائف في الحبّ أن شابًا أحبّ بنتًا من طرف واحد، ثم وجدها ذات يوم ترافق شابًا، لعله أخوها، فاقترب منها وقال: يا خائنة. لقد اعتقد أنه يملكها، وأوهم نفسه بذلك حتى غدا الوهم حقيقة راسخة لديه، مع أنها لا تعرفه.

فتحنا عيوننا على رئيس غريب ليس من أهل البلد، لا يُقسم بقسمه، ولا يتكلم بلهجته، ولا يدين بدينه. الشعارات تقول إنه يحب البلد وسينقذه، هو صاحب الوطن، لقد صار الوطن ملكه بشعبه وجباله وهضابه وبحيراته، بل إن أدبيات النظام والشعارات تنسب إليه أنه خلق الوطن وبثّه، ما قبله عدم، و"بيغ بانغ"، فوجدنا أنفسنا مطالبين بحبه، الوطن هو الرئيس، ومن لا يحبه خائن.

وفي القصة الثانية من قصة النبي موسى عليه السلام والرجل الصالح في سورة الكهف، يخرق الرجل الصالح سفينة لمساكين في البحر، فيستنكر النبي موسى عمله، فيشرح له الرجل الصالح أمر السفينة: "أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا"، كان الملك مولعًا بحب السفن الجميلة ويغتصبها.

وأرى كثيرًا شبابًا في المقاهي يتخاصمون حول الفرق الرياضية، هذا يحب ريال مدريد والثاني برشلونة  من غير سبب ظاهر، فماذا يربط بين سوري والأرجنتين؟ يقال في المثل: إن القرعاء تتباهى بشعر خالتها، يسمّون هذا الحب: حبّ من طرف واحد، وتقع حوادث غير محمودة بسبب هذا الحب الكروي، وقد تنتهي بالدماء.

وتقع خصومات بين كثيرين بسبب الانحياز لمطرب أو مولاة لممثل، وجعلتنا الفضائيات نحب مطربين مثل شعبان عبد الرحيم، ونشتري بضائع رديئة لأن التلفزيون يبشر بجودتها.

الاستعمار نفسه غزا بلادنا حبًّا بها وبشمسها وآثارها وثرواتها، من وراء أعالي البحار، لأنه يرفق بنا كما يزعم خطابه، ثم وجد أن الاحتلال بالوكالة أرخص وأسهل، فولّى علينا شرارنا. مؤسسو أميركا وكانت قارة بعيدة للهنود، أطلقوا أسماء عشرات المدن الفلسطينية عليها ظنّا أنها أرض الميعاد، فحرقوا أهلها وقتلوهم ثم احتُلت فلسطين لأنها أرض الحليب والعسل والجنة الموعودة كما يزعمون.

قد تجد تبريرًا لجريمة القتل الأولى يقول لك: إن قابيل القاتل قتل أخاه لأنه كان يذبح الحيوانات، وإن قابيل كان نباتيًا يغار على الحيوانات ويحب الورود والأزهار، بينما هو في الحقيقة كان يحب المال ويؤثر نفسه به على القربان.

ويُذكر أن جديس ذلّت على يد طسم بحكم رجل يقال له عمليق، وكان يأتي البكر من جديس، فتساق إليه فيفرعها قبل زوجها، فكان أن انتقمت جديس غدرًا بعد أن أصاب العار أخت سيد جديس، ويقال له الأسود بن عفار، وأصبح حاكمًا على طسم وجديس وحكم بينهما بالعدل.

أغرب أنواع الحب هو حب الإكراه، والذي نجده في الدكتاتوريات العربية

وفي فلم القلب الشجاع يسنّ ملك إنكلترا "الساقان الطويلتان" حق الليلة الأولى.

أغرب أنواع الحب هو حب الإكراه، والذي نجده في الدكتاتوريات العربية، فالرؤساء يُكرهون شعوبهم على حبهم لهم، والشعوب تدّعي الحبّ، هذا الحب، اسمه الحقيقي هو الخوف. الخوف حب للأمان أيضًا.